والكاذب والعالم والجاهل والبرّ والفاجر. ولم يكن فرق بين ما يصلح الناس من الأعمال ما يفسدهم وما ينفعهم وما يضرهم. وهؤلاء المشركون المحتجون بالقدر على ترك ما أرسل الله به رسله من توحيده، والإيمان به لو احتج به بعضهم على بعض في سقوط حقوقه ومخالفة أمره، لم يقبله منه. بل كان هؤلاء المشركون يذم بعضهم بعضا ويعادي بعضهم بعضا ويقاتل بعضهم بعضا على فعل من يريد تركا لحقهم، أو ظلما. فلما جاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوهم إلى حق الله على عباده وطاعة أمره، واحتجوا بالقدر. فصاروا يحتجون بالقدر على ترك حقّ ربهم ومخالفة أمره، بما لا يقبلونه ممن ترك حقهم وخالف أمرهم.
وفي الصحيحين عن معاذ بن جبل رضي الله عنه: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: يا معاذ بن جبل! أتدري ما حقّ الله على عباده؟ حقه على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا. أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟ حقهم عليه أن لا يعذّبهم «١» .
فالاحتجاج بالقدر حال الجاهلية الذين لا علم عندهم بما يفعلون ويتركون إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ وهم إنما يحتجون به في ترك حق ربهم ومخالفة أمره، لا في ترك ما يرونه حقا لهم ولا في مخالفة أمرهم. ولهذا تجد المحتجين والمستندين إليه من النساك والصوفية والفقراء والعامة والجند والفقهاء وغيرهم، يفرّون إليه عند اتباع الظن وما تهوى الأنفس. فلو كان معهم علم وهدى لم يحتجوا بالقدر أصلا. بل يعتمدون عليه، لعدم الهدى والعلم. وهذا أصل شريف، من اعتنى به علم منشأ، الضلال والغيّ لكثير من الناس. ولهذا تجد المشايخ والصالحين المتبعين للأمر والنهي، كثيرا ما يوصون أتباعهم بالعلم بالشرع. فإن كثيرا ما يعرض لهم إرادات في أشياء ومحبة لها. فيتبعون فيها أهواءهم ظانين أنه دين الله تعالى. وليس معهم إلى الظن والذوق والوجدان الذي يرجع إلى محبة النفس وإرادتها. فيحتجون تارة بالقدر وتارة بالظن والخرص. وهم متبعون أهواءهم في الحقيقة. فإذا اتبعوا العلم، وهو ما جاء به الشارع صلى الله عليه وسلم خرجوا عن الظن وما تهوى الأنفس، واتبعوا ما جاءهم من ربهم وهو الهدى. كما قال تعالى: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى [طه: ١٢٣] ، وقد ذكر الله تعالى
(١) أخرجه البخاريّ في: التوحيد، ١- باب ما جاء في دعاء النبيّ صلى الله عليه وسلم أمته إلى توحيد الله تبارك وتعالى، حديث ١٣٧١، وأخرجه مسلم في: الإيمان، حديث رقم ٥٠.