وفي قوله تعالى: فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ شبه أثر الجوع والخوف وضررهما المحيط بهم، باللباس الغاشي للابس. فاستعير له اسمه، وأوقع عليه الإذاقة المستعارة، لمطلق الإيصال، المنبئة عن شدة الإصابة، بما فيها من اجتماع إدراكي اللامسة والذائقة، على نهج التجريد. فإنها لشيوع استعمالها في ذلك، وكثرة جريانها على الألسنة جرت مجرى الحقيقة.
قال ابن كثير: هذا مثل أريد به أهل مكة. فإنها كانت آمنة مطمئنة مستقرة، يتخطف الناس من حولها، ومن دخلها كان آمنا لا يخاف. كما قال تعالى: وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا، أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا [القصص: ٥٧] ، وهكذا قال هاهنا ويَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً أي هنيئا سهلا مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ أي جحدت آلاء الله عليها، وأعظمها بعثة محمد صلى الله عليه وسلم إليهم. كما قال تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ. جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ
[إبراهيم: ٢٨- ٢٩] ، ولهذا بدلهم الله بحاليهم الأولين خلافهما فقال: فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ أي ألبسها وأذاقها الجوع بعد أن كان يجبى إليهم ثمرات كل شيء، ويأتيها رزقها من كل مكان. وذلك أنهم استعصوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبوا إلا خلافه. فدعا «١» عليهم بسبع كسبع يوسف. فأصابتهم سنة أذهبت كل شيء لهم. فأكلوا العلهز:
(هو وبر البعير يخلط بدمه إذا نحر) وقوله وَالْخَوْفِ وذلك أنهم بدلوا بأمنهم خوفا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حين هاجروا إلى المدينة، من سطوته وسراياه وجيوشه.
وجعل كل ما لهم في دمار وسفال. حتى فتحها الله عليهم. وذلك بسبب صنيعهم وبغيهم وتكذيبهم الرسول صلى الله عليه وسلم الذي بعثه الله فيهم منهم. وامتن به عليهم في قوله: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ.. [آل عمران: ١٦٤] الآية. وقوله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ آمَنُوا، قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً. رَسُولًا [الطلاق: ١٠] ، وقوله: كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ [البقرة: ١٥١] ، إلى قوله: وَلا تَكْفُرُونِ وكما أنه انعكس على الكافرين حالهم فخافوا بعد الأمن، وجاعوا بعد الرغد، بدّل الله المؤمنين من بعد خوفهم أمنا، ورزقهم بعد العيلة.
وجعلهم أمراء الناس وحكامهم وسادتهم وقادتهم وأئمتهم. انتهى.
(١) أخرجه البخاريّ، تعليقا، في: الدعوات، ٥٨- باب الدعاء على المشركين، عن ابن مسعود.