السؤال عن حقيقتها- مطابقا. إلا أنه إجماليّ. أي من الممكنات التي يمكن الوقوف على حقائقها، وإن كان بإعمال روية وإيقاظ فكر كباقي عالم الأمر. وعلى أن السؤال عن قدمها وحدوثها كذلك. إلا أنه تفصيليّ. وأيّا ما كان، فلم يترك بيانها، ولو كانت مما لا سبيل إلى معرفته لقيل: قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي كما قيل في الساعة، أو نحو ذلك. بل لو لم يكن السبيل لمعرفته، ولو بوجه ما، متيسّرا لكثير من الناس، لم يكن لأمره بالتفكر فيها، والتّبصر في أمرها، للاستدلال بها عليه، والتوصل بواسطة معرفتها إليه، الذي هو الغاية القصوى والثمرة العظمى- من فائدة. بل كان عبثا. فدل قوله تعالى: أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ [الروم: ٨] ، وقوله: وَفِي أَنْفُسِكُمْ، أَفَلا تُبْصِرُونَ [الذاريات: ٢١] ، ونحو ذلك، أنها أمر تدركه العقول، وبه يكون إليه تعالى الوصول.
ثم إن الذين خاضوا في البحث عنها، أثرت عنهم أقوال شتى. وقد أفردت لذلك تآليف قديمة وحديثة، والذي يهمنا معرفته ما عول عليه الأئمة المدققون، الذين نقبوا عن أقوال المتقدمين، ونقدوها بمحك الكتاب والسنة، فنبذوا ما يخالفهما وتمسكوا بما يوافقهما.
فمنهم الإمام ابن حزم. قال رحمه الله في كتابه (الملل والنحل) بعد سرد مذاهب شتى: وذهب سائر أهل الإسلام والملل المقرّة بالمعاد، إلى أن النفس جسم طويل عريض عميق ذات مكان. عاقلة مميزة مصرّفة للجسد. قال: وبهذا نقول.
والنفس والروح اسمان لمسمى واحد، ومعناهما واحد. ثم قال: وأما من ذهب إلى أن النفس ليست جسما، فقول يبطل بالقرآن والسنة وإجماع الأمة. فأما القرآن، فإن الله عز وجل قال: هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ [يونس: ٣٠] ، وقال تعالى:
الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ، لا ظُلْمَ الْيَوْمَ [غافر: ١٧] ، وقال تعالى:
كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ [الطور: ٢١] ، فصح أن النفس هي الفعالة الكاسبة المجيبة المخطئة. وقال تعالى: إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ [يوسف: ٥٣] ، وقال تعالى: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ [غافر: ٤٦] . وقال تعالى: وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ، بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ [البقرة: ١٥٤] ، وقال تعالى: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً، بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [آل عمران: ١٦٩- ١٧٠] فصح أن الأنفس، منها ما يعرض على النار قبل يوم القيامة، فيعذب. ومنها ما يرزق