مواصلة الأسفار وتجشم الأخطار، وركوب الأوعار والبحار، ثم إحرازه ذلك الفخار، الذي لا يشق له غبار، أكبر عبرة لأولي الأبصار.
ومنها: تنشيط الهمم لرفع العوائق. وأنه ما تيسرت الأسباب، فلا ينبغي أن يعد ركوب البحر ولا اجتياز القفر، عذرا في الخمول والرضاء بالدون. بل ينبغي أن ينشط ويمثل في مرارته، حلاوة عقباه من الراحة والهناء. كما قضى الإسكندر عمره ولم يذق إلا حلاوة الظفر ولذة الانتصار: إذ لم يكن من الذين تقعدهم المصاعب عن نيل ما يبتغون.
ومنها: وجوب المبادرة لمعالي الأمور من الحداثة. إذ من الخطأ التسويف فيه إلى الاكتهال. فإن الإسكندر لما تبوأ ملك أبيه كان في حدود العشرين من عمره.
وأتى ما أتى وهو في ريعان الشباب وقوة الفناء. فهاجم أعظم ملوك عصره وأكبر جيوشهم. كأنه القضاء المبرم. ولم يقف في وجه عدد ولا عدد. وخاض غمرات الردى غير هياب ولا وجل. وأضاف كل العالم الشرقيّ إلى المملكة اليونانية وهو شاب. وقضى وهو في الثالثة والثلاثين من عمره، كما دونه محققو المؤرخين.
ومنها: أن من قدر على أعدائه وتمكن منهم، فلا ينبغي له أن تسكره لذة السلطة بسوقهم بعصا الإذلال، وتجريعهم غصص الاستعباد والنكال. بل يعامل المحسن بإحسانه والمسيء بقدر إساءته. فإن ما حكي عن الإسكندر من قوله قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ [الكهف: ٨٧] ، إلى آخره، نهاية في العدل وغاية الإنصاف.
ومنها: أن على الملك، إذا اشتكى إليه جور مجاورين، أن يبذل وسعه في الراحة والأمن، دفاعا عن الوطن العزيز، وصيانة للحرية والتمدن، من مخالب التوحش والخراب، قياما بفريضة دفع المعتدين وإمضاء العدل بين العالمين. كما لبّى الإسكندر دعوة الشاكين في بناء السد. وقد أطبق المؤرخون على أنه بنى عدة حصون وأسوار، لرد غارات البرابرة، وصد هجماتهم.
ومنها: أن على الملك التعفف عن أموال رعيته، والزهد في أخذ أجرة، في مقابلة عمل يأتيه، ما أغناه الله عنه، ففي ذلك حفظ كرامته وزيادة الشغف بمحبته.
كما تأبّى الإسكندر تفضلا وتكرما.
ومنها: التحدث بنعمة الله تعالى إذا اقتضاه المقام. كقوله الإسكندر في مقام تعففه عن أموالهم، والشفقة عليهم ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ [الكهف: ٩٥] ، كقول سليمان فَما آتانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ [النمل: ٣٦] ، وقد قيل: إن دخل الإسكندر من البلاد التي فتحها كان نحو ستين مليون ليرة إنكليزية.