الثانية- جوز في إيثار قوله تعالى: ما فِي يَمِينِكَ على (عصاك) وجهان: أحدهما- أن يكون تعظيما لها. أي لا تحتفل بهذه الأجرام الكبيرة الكثيرة. فإن في يمينك شيئا أعظم منها كلها. وهذه على كثرتها أقل شيء وأنزره عنده. فألقه يتلقفها بإذن الله ويمحقها. وثانيهما- أن يكون تصغيرا لها أي لا تبال بكثرة حبالهم وعصيهم. وألق العويد الفرد الصغير الجرم الذي في يمينك. فإنه بقدرة الله يتلقفها على وحدته وكثرتها، وصغره وعظمها. وإنما المقصود بتحقيرها في جنب القدرة، تحقير كيد السحرة بطريق الأولى. لأنها إذا كانت أعظم منّة وهي حقيرة في جانب قدرة الله تعالى، فما الظن بكيدهم وقد تلقفته هذه الحقيرة الضئيلة؟.
ولأصحاب البلاغة طريق في علوّ المدح بتعظيم جيش عدوّ الممدوح، ليلزم من ذلك تعظيم جيش الممدوح وقد قهره واستولى عليه. فصغر الله أمر العصا، ليلزم منه كيد السحرة الداحض بها في طرفة عين.
واعلم أنه لا بد من نكتة تناسب الأمرين- التعظيم والتحقير- وتلك، والله أعلم، هي إرادة المذكور مبهما، لأن ما فِي يَمِينِكَ أبهم من (عصاك) وللعرب مذهب في التنكير والإبهام، والإجمال، تسلكه مرة لتحقير شأن ما أبهمته، وأنه عند الناطق به أهون من أن يخصه ويوضحه. ومره لتعظيم شأنه، وليؤذن أنه من عناية المتكلم والسامع بمكان، يغني في الرمز والإشارة. فهذا هو الوجه في إسعاده بهما جميعا.
ثم قال الناصر: وعندي في الآية وجه سوى قصد التعظيم والتحقير. والله أعلم. وهو أن موسى عليه السلام، أول ما علم أن العصا آية من الله تعالى، عند ما سأله عنها بقوله تعالى وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى ثم أظهر له تعالى آيتها، فلما دخل وقت الحاجة إلى ظهور الآية منها، قال تعالى: وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ ليتيقظ بهذه الصيغة للوقت الذي قال الله تعالى له: وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ وقد أظهر له آيتها، فيكون ذلك تنبيها له وتأنيسا، حيث خوطب بما عهد أن يخاطب به وقت ظهور آيتها. وذلك مقام يناسب التأنيس والتثبيت. ألا ترى إلى قوله تعالى:
فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى؟ انتهى.
ولأبي حيان نكتة أخرى. وهي ما في اليمين من الإشعار باليمن والبركة. ولا يقال جاء في سورة الأعراف أَلْقِ عَصاكَ والقصة واحدة. لأنه يجاب بأنه مانع من