ويعاقب على الشر، أطلق لنفسه عنان الفساد، واطّرح العذار في مضمار الشهوات وإحراز الرغائب، قضاء لما يحسبه من سعادته، واعتقاد أن نفسه ليست خالدة.
وليس لسعادته موضوع خارج عن هذه العاجلة. ولاستلزامها أيضا هدم الاجتماع الإنسانيّ والذهاب بشأفته. إذ لا ترعى بعد الله ذمة بين الملأ، ولا حرمة للسنن والشرائع، ولا برّ بالملوك، ولا عدل بالرعية، ولا محبة ولا صدق ولا وفاء ولا نحو ذلك مما هو ضروريّ بالذات لقيام الألفة البشرية ونظام العمران.
وبالجملة، فلا يظنن أحد أن العالم يدوم أو يبقى فيه شيء من النظام أو الهيئة الاجتماعية، إذا لم يكن الناس مقيّدين بشريعة إلهية، تصدّ الفاجر عن الفجور. فكما أن الهواء ضروريّ للحياة الطبيعية، فكذا الشريعة ضرورية للحياة الأدبية. فلا حياة للموجودات الحية دون هواء، فكذا لا انتظام ولا هيئة في العالم دون الشريعة. انتهى.
وقال إمام مدقق، في بحث تصحيح الاعتقاد وضرورته لطمأنينة النفس وسعادتها، ما مثاله: إنا نرى أمام أعيننا بعضا من الناس قد رزقوا صحة عظيمة وثروة جسمية وتهذبوا بأنواع العلوم والمعارف، ولكنهم كثير والضجر شديد والحيرة. لا يكادون يشعرون بالراحة ولا يلتذون بملذة. كأن لهم في لذة ألما، وبإزاء كل فرح ترحا، يحسّون بكآبة قد رانت على صدورهم: فلا يعلمون سببها ولا يعرفون موجبها. كآبة لا تزايلهم إلا بزوال عقولهم عنهم، بكأس من الرحيق. فلذلك تراهم شديدي الكلف به كثيري التحرق لفقدانه، لأنه دواؤهم الوحيد. ما سر هذا الأرق والضجر، مع هذه الصحة الجسمية وتلك الثروة المالية، وهما الأمران اللذان عليهما، كما يزعمون، مدار السعادة الإنسانية؟ ما هذه الحيرة الوجدانية والوحشة الضميرية، مع تهذبهم بأنواع العلم، وهو كما يزعمون، الشافي للناس من نزعات الوسواس؟.
أما يدلنا هذا الضجر السري على أن النفس تائقة لأمر ما، إن غاب على الإنسان علمه، فقد دله عليه أثره. وإن ذلك الأمر ليس هو صحة البدن ولا وفرة المال ولا كثرة البنين، ولا سكنى القصور، ولا أكل الصنوف، ولا سماع العيدان، ولا مغازلة الغيد. بل هو أمر آخر لا تعد هذه الملاذ بالنسبة له إلا هباء، ولا الأكوان بجانبه إلا فناء.. ما هو هذا الأمر السامي الذي لو حصلت عليه النفس اطمأنت وسكنت، وهامت به وسكرت، ورضيت به وقنعت. هو لا شك صحة المعتقد، وإليك الدليل:
ليست النفس من طبيعة هذه الأجسام الصماء. ولا من طينة هذه المادة العمياء، حتى تأنس إلى شيء من أشياء هذه الأرض الحقيرة، أو تهتم بملاذها مهما