للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إليها نبيّ. فإذ لا شك في هذا، فإن القول منه تعالى يخرج على أحد ثلاثة أوجه:

أحدها أن يكون الضمير في قوله تعالى: وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ راجع إلى القلوب المذكورة في أول الآية في قوله تعالى: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً فذكر تعالى أن من تلك القلوب القاسية ما يقبل الإيمان يوما ما، فيهبط عن القسوة إلى اللين من خشية الله تعالى، وهذا أمر يشاهد بالعيان، فقد تلين القلوب القاسية بلطف الله تعالى، ويخشى العاصي. وقد أخبر عز وجلّ: وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ [آل عمران: ١٩٩] ، وكما أخبر تعالى أن مِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ [التوبة: ٩٩] من بعد أن أخبر أن الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً [التوبة: ٩٧] . (قال) فهذا وجه ظاهر متيقن الصحة. والوجه الثاني أن الخشية المذكورة في الآية إنما هي التصرف بحكم الله تعالى وجري أقداره، كما قلنا في قوله تعالى حاكيا عن السماء والأرض قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ [فصلت: ١١] .

والوجه الثالث أن يكون الله تعالى عنى بقوله وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ الجبل الذي صار دكّا، إذ تجلى الله تعالى له يوم سأله كليمه عليه السلام الرؤية، فذلك الجبل بلا شك من جملة الحجارة وقد هبط عن مكانه من خشية الله تعالى، وهذه معجزة وآية وإحالة طبيعة في ذلك الجبل خاصة. ويكون يَهْبِطُ بمعنى «هبط» كقوله تعالى: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا [الأنفال: ٣٠] معناه:

وإذ مكر، وبين قوله تعالى، مصدقا إبراهيم خليله صلّى الله عليه وسلّم في إنكاره على أبيه عبادة الحجارة لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ

[مريم: ٤٢] وقوله تعالى: أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعاءَ، قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ [الزمر: ٤٣] فصح بهذا، صحة لا مجال للشك فيها، أن الحجارة لا تعقل. وإذ تيقن ذلك بالنص وبالضرورة والمشاهدة فقد انتفى عنها النطق والتمييز والخشية، المعهود كل ذلك عندنا. وأما الأحاديث المأثورة في أن الحجر له لسان وشفتان، والكعبة كذلك، وأن الجبال تطاولت، وخشع جبل كذا، فخرافات موضوعة نقلها كل كذاب وضعيف، لا يصح منها شيء من طريق الإسناد أصلا. ويكفي من التطويل في ذلك أنه لم يدخل شيئا منها من انتدب من الأئمة لتصنيف الصحيح من الحديث، أو ما يستجاز روايته، مما يقارب الصحة (انتهى كلام ابن حزم) .

وقال ابن جرير: اختلف أهل النحو في معنى الهبوط- ما هبط من الأحجار من خشية الله- فقال بعضهم: إن هبوط ما هبط منها من خشية الله تفيّؤ ظلاله. وقال

<<  <  ج: ص:  >  >>