للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

عند الله. ولولاه لما كان لتخصيصه بالفهم معنى. والمستدلون يقولون: إن الله لما لم يخطئه، دل على أن كلا منهما مصيب. وتخصيصه بالفهم لا يدل على خطأ داود عليه السلام، لجواز كون كلّ مصيبا. ولكن هذا أرفق وذاك أوفق، بالتحريض على التحفظ من ضرر الغير. فلذلك استدل بهذه الآية كلّ. فكما لم يعلم حكم الله فيها، لم يعلم تعين دلالتها. كذا في (العناية) .

وجاء في (فتح البيان) ما مثاله: لا شك أنها تدل على رفع الإثم عن المخطئ، وأما كون كل واحد منهما مصيبا فلا تدل عليه هذه الآية ولا غيرها، بل صرح الحديث المتفق عليه في الصحيحين «١» وغيرهما أن الحاكم إذا اجتهد فأصاب فله أجران، وإن اجتهد فأخطأ فله أجر. فسماه النبيّ صلى الله عليه وسلم مخطئا. فكيف يقال إنه مصيب لحكم الله موافق له؟ فإن حكم الله سبحانه واحد لا يختلف باختلاف المجتهدين.

وإلا لزم توقف حكمه عزّ وجلّ على اجتهادات المجتهدين، واللازم باطل فالملزوم مثله. وأيضا يستلزم أن تكون العين التي اختلف فيها اجتهاد المجتهدين، بالحلّ والحرمة، حلالا وحراما في حكم الله سبحانه. وهذا اللازم باطل بالإجماع، فالملزوم مثله. وأيضا يلزم أن حكم الله سبحانه لا يزال يتجدد عند وجود كل مجتهد، له اجتهاد في تلك الحادثة، ولا ينقطع ما يريده الله سبحانه وتعالى فيها إلا بانقطاع المجتهدين. واللازم باطل فالملزوم مثله. والحاصل أن المجتهدين لا يقدرون على إصابة الحق في كل حادثة. لكن لا يصرون على الخطأ. كما رجع داود هنا إلى حكم سليمان، لما ظهر له أنه الصواب.

قال الحسن: لولا هذه الآية، لرأيت الحكام قد هلكوا. ولكن الله حمد هذا بصوابه، وأثنى على هذا باجتهاده.

الثاني- دلت هذه الآية على جواز الاجتهاد للأنبياء عليهم السلام. وهو مذهب الجمهور. ومنعه بعضهم. ولا مستند له. لأن قضاء داود لو كان بوحي لما أوثر قضاء ابنه سليمان عليه. ومما يدل على وقوعه دلالة ظاهرة قوله تعالى: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ [التوبة: ٤٣] ، فعاتبه على ما وقع منه. ولو كان ذلك بالوحي لم يعاتبه.

ومنه ما صح عنه صلوات الله عليه من قوله «٢» : (لو استقبلت من أمري ما استدبرت


(١) أخرجه البخاري في: الاعتصام، ٢١- باب أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ. الحديث رقم ٢٥٩٣، عن عمرو بن العاص.
وأخرجه مسلم في: الأقضية، حديث رقم ١٥.
(٢) أخرجه البخاري في: الحج، ٨١- باب تقضي الحائض المناسك كلها إلا الطواف بالبيت، حديث ٨٢٦، عن جابر بن عبد الله. وأخرجه مسلم في: الحج، حديث رقم ١٤١.

<<  <  ج: ص:  >  >>