عنهم أَنْ يُؤْمِنُوا أي هؤلاء اليهود الذين بين أظهركم وهم متماثلون في الأخلاق الذميمة، لا يأتي من أخلافهم إلا مثل ما أتى. من أسلافهم، (واللام في قوله) لَكُمْ لتضمين معنى الاستجابة. كما في قوله عز وجل فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ [العنكبوت: ٢٦] ، أي في إيمانهم مستجيبين لكم. أو للتعليل أي في أن يحدثوا الإيمان لأجل دعوتكم وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ أي طائفة فيمن سلف منهم يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ وهو ما يتلونه من التوراة ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ قال ابن كثير: أي يتأولونه على غير تأويله. وقال ابن جرير: يعني بقوله يُحَرِّفُونَهُ يبدلون معناه وتأويله ويغيّرونه، وأصله من انحراف الشيء عن جهته وهو ميله عنها إلى غيرها.
فكذلك قوله يُحَرِّفُونَهُ أي يميلونه عن وجهه، ومعناه الذي هو معناه، إلى غيره.
مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ أي فهموه على الجلية، ومع هذا يخالفونه على بصيرة وَهُمْ يَعْلَمُونَ أنهم مخطئون فيما ذهبوا إليه من تحريفه وتأويله.
قال ابن جرير: هذا إخبار عن إقدامهم على البهت ومناصبتهم العداوة له ولرسوله موسى عليه السّلام. وأن بقاياهم في العصر المحمديّ على مثل ما كان عليه أوائلهم في العصر الموسويّ بغيا وحسدا. وهذا المقام شبيه بقوله تعالى: فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ [المائدة: ١٣] ، والظاهر أن المراد، بالفريق منهم، أحبارهم، وإنما فعلوا ذلك لضرب من الأغراض على ما بينه الله تعالى، من بعد، في قوله تعالى: وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا [آل عمران: ١٨٧] ، وقال يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ [البقرة: ١٤٦] .
ولقائل أن يقول، كيف يلزم من إقدام البعض على التحريف حصول اليأس من إيمان الباقين، فإن عناد البعض لا ينافي إقرار الباقين. وأجاب القفال عنه فقال:
يحتمل أن يكون المعنى: كيف يؤمن هؤلاء، وهم إنما يأخذون دينهم، ويتعلمونه من قوم هم يتعمدون التحريف عنادا، فأولئك إنما يعلمونهم ما حرفوه وغيّروه عن وجهه، والمقلدة لا يقبلون إلا ذلك، ولا يلتفتون إلى أقوال أهل الحق، وهو قولك للرجل كيف تفلح، وأستاذك فلان؟ أي وأنت عنه تأخذ، ولا تأخذ عن غيره.
ونحوه قول الراغب: لما كان الإيمان هو العلم الحقيقيّ مع العمل بمقتضاه، فمتى لم يتحر ذلك من حصل له بعض العلوم، فحقيق أن لا يحصل لمن غبي عن كل العلوم. فذكر ذلك تبعيدا لإيمانهم لا يأسا للحكم بذلك، إذ ليس كل ما لا يطمع فيه كان مأيوسا (ثم قال الراغب) وفي الآية تنبيه أن ليس المانع للإنسان من تحري الإيمان الجهل به فقط، بل يكون عنادا وغلبة شهوة.