الثاني- أكثر المفسرين (كما حكاه الرازي) على أن يونس ذهب مغاضبا لربه. وأنه ظن بإباقه إلى الفلك، وتركه المسير إلى نينوى أولا، أن يترك ولا يقاصّ.
قال بعض المحققين: إنما خالف يونس أولا الأمر الإلهي وترخص فيه، مخافة أن يظن أنه نبيّ كاذب إذا تاب أهل نينوى وعفا الله عن جرمهم. وإيثار صيغة المبالغة في (مغاضبا) للمبالغة. لأن أصله يكون بين اثنين، يجهد كل منهما في غلبة الآخر.
فيقتضي بذل المقدور والتناهي. فاستعمل في لازمه للمبالغة، دون قصد (مفاعلة) وقد استدل بظاهر هذه الآية وأمثالها، من ذهب إلى جواز صدور الخطأ من الأنبياء، إلا الكذب في التبليغ، فإنه لا يجوز عليهم الخطأ فيه، لأنه حجة الله على عباده. وإلا ما يجري مجرى بيان الوحي، فإنه لا يجوز عليهم الخطأ في حال بيان المشروع. وهو قول الكرامية في المرجئة (كما في شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد) وقول الباقلاني من الأشعرية: (على ما حكاه ابن حزم في الملل) . وأما الجمهور المانعون من ذلك، فلهم في هذه الآية وأشباهها تأويلات. ونحن نؤثر ما قاله ابن حزم في هذا المقام، لأنه أطلق لسانا، قال رحمه الله (بعد أن حكى مذهب الكرامية المذكور) :
وذهب أهل السنة والمعتزلة والنجاريّة والخوارج والشيعة إلى أنه لا يجوز البتة أن يقع من نبيّ معصية بعمد لا صغيرة ولا كبيرة.
ثم قال: وهذا القول الذي ندين الله تعالى به. ولا يحل لأحد أن يدين بسواه.
ونقول: إنه يقع من الأنبياء السهو عن غير قصد. ويقع منهم أيضا قصد الشيء يريدون به وجه الله تعالى، والتقرب به منه. فيوافق خلاف مراد الله تعالى. إلا أنه تعالى لا يقرهم على شيء من هذين الوجهين أصلا، بل ينبههم على ذلك ولا بد، إثر وقوعه منهم. وربما يبغض المكروه في الدنيا، كالذي أصاب آدم ويونس والأنبياء عليهم السلام، بخلافنا في هذا. فإننا غير مؤاخذين بما سهونا فيه، ولا بما قصدنا به وجه الله عزّ وجلّ، فلم يصادف مراده تعالى. بل نحن مأجورون على هذا الوجه أجرا واحدا.
ثم قال (في الكلام على يونس عليه السلام) : وأما إخبار الله تعالى أن يونس ذهب مغاضبا، فلم يغاضب ربه قط، ولا قال الله تعالى إنه غاضب ربه. فمن زاد هذه الزيادة كان قائلا على الله الكذب، وزائدا في القرآن ما ليس فيه. هذا لا يحل ولا يجوز أن يظن بمن له أدنى مسكة من عقل، أنه يغاضب ربه تعالى. فكيف أن يفعل ذلك نبيّ من الأنبياء؟ فعلمنا يقينا أنه إنما غاضب قومه، ولم يوافق ذلك مراد الله عزّ وجلّ، فعوقب بذلك. وإن كان يونس عليه السلام لم يقصد بذلك إلا رضاء الله عزّ