بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا [الأنبياء: ٦٣] ، بعد السكت وبيان الفصل بين الكلامين. ثم رجع إلى تلاوته. وهذا ممكن مع بيان الفصل وقرينة تدل على المراد، وأنه ليس من المتلوّ. وهو أحد ما ذكره القاضي أبو بكر.
ومما يظهر في تأويله، إن سلمنا القصة، أن يراد بالغرانيق الملائكة. ورجاء الشفاعة من الملائكة صحيح. فلما تأوّله المشركون على أن المراد بها آلهتهم، ولبّس عليهم الشيطان ذلك وزيّنه في قلوبهم، وألقاه إليهم، نسخ الله ما ألقى الشيطان وأحكم آياته ورفع تلاوة تلك اللفظتين. انتهى كلام القاضي ملخصا.
وقال أبو بكر الباقلاني: وقيل: كان صلى الله عليه وسلم يرتل القرآن، فارتصده الشيطان في سكتة من السكتات. ونطق بتلك الكلمات، محاكيا نغمته، بحيث سمعه من دنا إليه، فظنها من قوله تعالى وأشاعها.
قال: وهذا أحسن الوجوه. ويؤيده ما روي عن ابن عباس من تفسير (تمنى) ب (تلا) وكذا استحسن ابن العربي هذا التأويل. وقال قبله: إن هذه الآية نص في براءة النبيّ صلى الله عليه وسلم مما نسب إليه، وأن الشيطان زاده في قوله صلوات الله عليه، لا أنه عليه السلام قاله.
قال: وقد سبق إلى ذلك الطبري فصوب هذا المعنى وحوّم عليه. واستحسان ابن العربي ذلك، على فرض صحة القصة، وإلا فقد قال: ذكر الطبري في ذلك روايات كثيرة باطلة لا أصل لها. وقال تقي الدين بن تيمية: في الآية قولان والمأثور عن السلف يوافق القرآن بذلك. والذين منعوا ذلك من المتأخرين طعنوا فيما ينقل من الزيادة في سورة النجم بقوله (تلك الغرانيق العلى وإنّ شفاعتهنّ لترتجى) وقالوا: إن هذا لم يثبت. ومن علم أنه ثبت قال: هذا ألقاه الشيطان في مسامعهم، ولم يلفظ به الرسول صلى الله عليه وسلم. ولكن السؤال وارد على هذا التقدير أيضا.
وقالوا في قوله: إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ: هو حديث النفس وأما الذين قرروا ما نقل عن السلف، فقالوا: هذا منقول نقلا ثابتا لا يمكن القدح فيه وقالوا: الآثار في تفسير هذه الآية معروفة ثابتة في كتب التفسير والحديث.
والقرآن يوافق ذلك. فإن نسخ الله لما يلقي الشيطان، وإحكامه آياته، إنما يكون لرفع ما وقع في آياته، وتمييز الحق عن الباطل حتى لا تختلط آياته بغيرها. وجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم، إنما يكون ذلك ظاهرا يسمعه الناس، لا باطنا في النفس. والفتنة التي تحصل بهذا النوع من النسخ، من جنس