للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

في قلوبهم مرض من أشياعهم، وافتتنوا هم بما أصابوا من الظفر في دفاعهم. ولكن الله غالب على أمره. فيمحق ما ألقاه الشيطان من هذه الشبهات، ويرفع هذه الموانع وتلك العقبات، ويهب السلطان لآياته فيحكمها ويثبت دعائمها، وينشئ من ضعف أنصارها قوة، ويخلف لهم من ذلتهم عزة، وتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الشيطان هي السفلى فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً، وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ [الرعد: ١٧] ، وفي حكاية هذه السنة الإلهية التي أقام عليها الأنبياء والمرسلين، تسلية لنبينا صلى الله عليه وسلم عما كان يلاقي من قومه، ووعد له بأنه سيكمل له دينه، ويتم عليه وعلى المؤمنين نعمته، مع استلفاتهم إلى سيرة من سبقهم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ [العنكبوت: ٢] ، أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ، مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ، أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ [البقرة:

٢١٤] .

هذا هو التأويل الثاني في معنى الآية. يدل عليه ما سبق من الآيات، ويرشد إلى سياق القصص السابق في قوله وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ [الحج:

٤٢] ، إلخ. وأنت ترى أن قصة الغرانيق لا تتفق مع هذا المعنى الصحيح.

وهناك تأويل ثالث ذكره صاحب الإبريز. وإني أنقله بحروفه، وما هو بالبعيد عن هذا بكثير. قال (بعد ذكر أمانيّ الأنبياء في أممهم، وطمعهم في إيمانهم، وشأن نبينا صلى الله عليه وسلم في ذلك، على نحو يقرب مما ذكرناه في الوجه الثاني) :

ثم إن الأمة تختلف كما قال تعالى: وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ [البقرة: ٢٥٣] ، فأما من كفر فقد ألقى إليه الشيطان الوساوس القادحة له في الرسالة، الموجبة لكفره. وكذا المؤمن أيضا لا يخلو أيضا من وساوس، لأنها لازمة للإيمان بالغيب في الغالب، وإن كانت تختلف في الناس بالقلة والكثرة، وبحسب المتعلقات إذا تقرر هذا فمعنى (تمنى) أنه يتمنى لهم الإيمان ويحب لهم الخير والرشد والصلاح والنجاح، فهذه أمنية كل رسول ونبيّ. وإلقاء الشيطان فيها، يكون بما يلقيه في قلوب أمة الدعوة من الوساوس الموجبة لكفر بعضهم، ويرحم الله المؤمنين فينسخ ذلك من قلوبهم، ويحكم فيها الآيات الدالة على الوحدانية والرسالة، ويبقي ذلك عزّ وجل في قلوب المنافقين والكافرين ليفتتنوا به. فخرج من

<<  <  ج: ص:  >  >>