للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وذلك أن الإنسان إنما يكون بالأولى إنسانا، وترقيه إلى العالم العلويّ، وتوجهه إلى الجناب الإلهي وتحصيله للمعارف والكمالات، واكتسابه للخيرات والسعادات- إنما يكون بها. فإذا فسدت بغلبة الشيطنة عليها، واحتجبت عن النور باستيلاء الظلمة، حصلت الشقاوة العظمى، وحقت العقوبة بالنار. وهو الرين والحجاب الكلي.

ألا ترى أن الشيطنة المغوية للآدمي أبعد عن الحضرة الإلهية، من السبعية والبهيمية؟ وأبعد بما لا يقدر قدره، فالإنسان برسوخ رذيلته النطفية يصير شيطانا، وبرسوخ الرذيلتين الأخريين، يصير حيوانا كالبهيمة أو السبع، وكل حيوان أرجى صلاحا، وأقرب فلاحا من الشيطان. ولهذا قال تعالى: هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ [الشعراء: ٢٢١- ٢٢٢] ، ونهى ها هنا عن اتباع خطوات الشيطان. فإن ارتكاب مثل هذه الفواحش لا يكون إلا بمتابعته ومطاوعته، وصاحبه يكون من جنوده وأتباعه،. فيكون أخس منه وأذل، محروما من فضل الله الذي هو نور هدايته، محجوبا من رحمته التي هي إفاضة كمال وسعادة، ملعونا في الدنيا والآخرة، ممقوتا من الله والملائكة. تشهد عليه جوارحه بتبدّل صورها وتشوّه منظرها. خبيث الذات والنفس. متورطا في الرجس. فإن مثل هذه الخبائث لا تصدر إلا من الخبيثين. كما قال تعالى: الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وأما الطيبون المنزهون عن الرذائل، فإنما تصدر عنهم الطيبات والفضائل. انتهى.

السابع- في سر قرن الزنى بالشرك في قوله تعالى: الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً [النور: ٣] ، وتحقيق القول في الآية. قال الإمام ابن القيم رحمه الله في (إغاثة اللهفان) : نجاسة الزنى واللواطة أغلظ من غيرها من النجاسات. من جهة أنها تفسد القلب وتضعف توحيده جدّا. ولهذا أحظى الناس بهذه النجاسة، أكثرهم شركا. فكلما كان الشرك في العبد أغلب. كانت هذه النجاسة والخبائث فيه أكثر، وكلما كان أعظم إخلاصا، كان منها أبعد، كما قال تعالى عن يوسف الصديق عليه السلام كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ [يوسف:

٢٤] ، فإن عشق الصور المحرمة نوع تعبّد لها. بل هو من أعلى أنواع التعبّد. ولا سيما إذ استولى على القلب وتمكن منه، صار تتيّما. والتتيّم التعبد. فيصير العاشق عابدا لمعشوقه. وكثيرا ما يغلب حبه وذكره والشوق إليه والسعي في مرضاته وإيثار محابّه، على حب الله وذكره والسعي في مرضاته، بل كثيرا ما يذهب ذلك من قلب العاشق بالكلية ويصير متعلقا بمعشوقة من الصور. كما هو مشاهد فيصير المعشوق هو إلهه من دون الله عزّ وجلّ. يقدم رضاه وحبه على رضا الله وحبه. ويتقرب إليه ما

<<  <  ج: ص:  >  >>