بيان لتضليل كل فريق صاحبه بخصوصه، إثر بيان تضليله كلّ من عداه على وجه العموم. ومعنى عَلى شَيْءٍ أيّ أمر يعتد به من الدين وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ الواو للحال. والكتاب للجنس. أي قالوا ذلك وحالهم أنهم من أهل العلم والتلاوة للكتب. وحق من حمل التوراة أو الإنجيل، أو غيرهما من كتب الله، وآمن به، أن لا يكفر بالباقي. لأن كل واحد من الكتابين مصدق للثاني، شاهد بصحته. وكذلك كتب الله جميعا متواردة على تصديق بعضها بعضا كَذلِكَ أي مثل الذي سمعت به على ذلك المنهاج قالَ الجهلة الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لا علم عندهم ولا كتاب.
كعبدة الأصنام. قالوا لأهل كل دين مِثْلَ قَوْلِهِمْ ليسوا على شيء. وهذا توبيخ عظيم، حيث نظموا أنفسهم، مع علمهم، في سلك من لا يعلم فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ أي يفصل بينهم بقضائه العدل، فيحكم بين المحق والمبطل فيما اختلفوا فيه. وهذه الآية كقوله تعالى في سورة الحج إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ، إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [الحج: ١٧] وكما قال تعالى: قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ [سبأ: ٢٦] .
قال الرازيّ: وأعلم أن هذه الواقعة بعينها قد وقعت في أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم، فإن كل طائفة تكفّر الأخرى. مع اتفاقهم على تلاوة القرآن. انتهى.
فهاهنا تسكب العبرات بما جناه التعصب في الدين على غالب المسلمين من الترامي بالكفر، لا بسنّة ولا قرآن، ولا لبيان من الله ولا لبرهان، بل لمّا غلت مراحل العصبية في الدين، تمكن الشيطان من تفريق كلمة المسلمين،
يأبى الفتح إلا اتباع الهوى ... ومنهج الحق له واضح
مع أن الله تعالى أمر بالجماعة والائتلاف. ونهى عن الفرقة والاختلاف. فقال تعالى وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران: ١٠٣] . وقال تعالى:
إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ [الأنعام: ١٥٩] . وقال تعالى: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ [آل عمران: ١٠٥] . وقال تعالى: وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [الأنعام: ١٥٣] . وقد امتاز أهل الحق، من هذه الأمة بالسنة والجماعة، عن أهل الباطل الذين يزعمون أنهم يتبعون الكتاب ويعرضون عن سنّة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وعما مضت عليه جماعة المسلمين.