للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَكانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلًا قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا [الأحزاب: ١٥- ١٦] ، فلما خانوا أماناتهم بالفرار والتعويق لإخوانهم، والتثبيط لهم وما كان من شنائعهم في تلك الغزوة، بين الله تعالى في خاتمة السورة، شأن الأمانة، وعظم خطرها، وأنها عند الله بمكان عظيم. وذلك لأن من أعطى من نفسه موثقا، عاهد الله عليه فاطمأنت به النفوس ووثقت به وركنت إليه وأدرجته في عداد من يشدّ أزرها، فإذا هو غادر خائن كاذب متلاعب، يتخذ عهود الله هزؤا ولعبا، فيخذل من وثق به، ويمالئ العدوّ عليه ويثبط من يجرى منه نوع معونة، ويوقع الأراجيف ليوهي العزائم ويضعف الهمم، فتكثر القالة وترتبك العامة فما أسوأ ما يأتي به وما أفظع ما ارتكب وما أعظم جريمته! وجليّ أن عظم الجريمة بقدر عظم آثارها، وما ذكر بعض من آثارها. ففي أي مرتبة تكون الخيانة؟ لا جرم أنها في أحط المهاوي الدنيئة. كما أن مرتكبها في الدرك الأسفل من النار. فالأمانة المذكورة في الآية باعتبار سياقها وسباقها، هي الأمانة التي خان في تحملها المنافقون، ونقضوا بها عهدهم في هذه الواقعة. وكان من أثرها السيّئ في المدينة وأهلها ما كان- وإن كان لفظها يعم ما ذكر وغيره، والإنسان هنا، المعنيّ به جنس المنافق الذي قصّ من نبئه ما قصّ. والقصد لومه على كونه تحمل ما تحمل، ثم نقض ذلك عن عمد وقصد، ظلما لنفسه وجهلا بالعاقبة وباللوم الذي يتبعه، وبالعذاب الذي سيلقاه، وبكون هذا الأمر أمرا ربّانيا وعزيمة إلهية ما هي بالهزل. والمراد بعرض الأمانة على السماوات والأرض والجبال، هو ظهور خطرها لهذه المكونات، وفظاعة الخيانة فيها، وإشفاق كلّ من خطر تحملها. وإبائهن ذلك لو كن مما يعقلن. مع أنهن أقوى أجساما وأعظم ثباتا وأصبر على طوارئ الحدثان، تخوفا من أن يطغين في أمرها أو يعصين في شأنها. وإن الإنسان، مع ضعفه بالنسبة لهن، حملها وما حفظها ولا رعاها. واجترأ مع ضعفه على ما أشفق منه ما هو أقوى منه. فما أظلمه وما أجهله! والقصد رميه بالظلم والجهل. وجراءته على الخيانة وعدم مبالاته بما ترهب منه السماوات والأرض والجبال. فيا لله ما أطغاه! فذكر هذه الأجرام الكبيرة تهويل لخطر الأمانة، وأنهن لو عقلن لكان منهن ما كان. ونظير هذه الآية في ذكر هؤلاء الثلاثة قوله تعالى: وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً [مريم: ٨٨- ٩١] ، وحقا أن سبك المعنى المذكور في قالب هذا النظم البديع لمعجزة من معجزات التنزيل، وخارق من خوارقه في باب البلاغة. فإن أسلوبه في

<<  <  ج: ص:  >  >>