ثم لو كانوا رسل المسيح لما قالوا لهم: إن أنتم إلا بشر مثلنا.
الثاني- أن أهل أنطاكية آمنوا برسل المسيح إليهم. وكانوا أول مدينة آمنت بالمسيح. ولهذا كانت عند النصارى إحدى المدائن الأربعة اللائي فيهن بطاركة.
وهن: القدس لأنها بلد المسيح. وأنطاكية لأنها أول بلدة آمنت بالمسيح عن آخر أهلها. والإسكندرية لأن فيها اصطلحوا على اتخاذ البطارقة والأساقفة والشمامسة والرهابين، ثم رومية لأنها مدينة الملك قسطنطين الذي نصر دينهم وأطده. ولما ابتنى القسطنطينية نقلوا البطرك من رومية إليها- كما ذكره غير واحد ممن ذكر تواريخهم- كسعد بن بطريق وغيره من أهل الكتاب والمسلمين- فإذا تقرر أن أنطاكية أول مدينة آمنت، فأهل هذه القرية ذكر الله تعالى أنهم كذبوا رسله، وأنه أهلكهم بصيحة واحدة أخمدتهم.
الثالث- أن قصة أنطاكية مع الحواريين أصحاب المسيح بعد نزول التوراة، وقد ذكر أبو سعيد الخدريّ رضي الله عنه وغير واحد من السلف. أن الله تبارك وتعالى بعد إنزاله التوراة، لم يهلك أمة من الأمم عن آخرهم بعذاب يبعثه عليهم. بل أمر المؤمنين بعد ذلك بقتال المشركين. ذكروه عند قوله تعالى وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى [القصص: ٤٣] ، فعلى هذا يتعين أن أهل هذه القرية المذكورة في القرآن، قرية أخرى غير أنطاكية. كما أطلق ذلك غير واحد من السلف أيضا. أو تكون أنطاكية- إن كان لفظها محفوظا في هذه القصة- مدينة أخرى غير المشهورة المعروفة. فإن هذه لم يعرف أنها أهلكت لا في الملة النصرانية، ولا قبل ذلك، والله سبحانه وتعالى أعلم. انتهى كلام ابن كثير.
وأقول: إن من محاسن التنزيل الكريم وبلاغته الخارقة، هو الإيجاز في الأنباء التي يقصها، والإشارة منها إلى روحها وسرها، حرصا على الثمرة من أول الأمر، واقتصارا على موضع الفائدة، وبعدا عن مشرب القصاص والمؤرخين. لأن القصد من قصصه الاعتبار والذكرى. وما من حاجة إلى تسمية تلك المبهمات كائنة ما كانت، ثم إن المفسرين رحمهم الله عنوا بالبحث والأخذ والتلقي. فكان من سلف منهم يرون فيما يرون أن من العلم تفصيل مجملات التنزيل وإبانة مبهماته. حتى جعل ذلك فنّا برأسه وألف فيه مؤلفات. ولا بأس في التوسع من العلم والازدياد منه بأي طريقة كانت. لا سيما وقد رفع عنا الحرج بالتحدث عن بني إسرائيل. إلا أنه يؤاخذ من يجزم بتعيين مبهم ما، إن كان جزمه من غير طريق القواطع فإن القاطع. هو