بذلك أن يكون له الحجة على الله، توهما أنه يلزم من مشيئة الله تعالى لضلالة من ضل، أن لا يعاقبه على ذلك. لأنه إنما فعل مقتضى مشيئته.
ثم قال: فإذا وضح ما قلناه، فإنما رد الله عليهم مقالتهم هذه. لأنهم توهموا أنها حجة على الله. فدحض الله حجتهم، وأكذب أمنيتهم، وبين أن مقالتهم صادرة عن ظن كاذب وتخرص محض، فقال: ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ و (إنهم إلا يظنون) وقد أفصحت أخت هذه الآية مع هذه الآية عن هذا التقدير.
وذلك قوله تعالى في سورة الأنعام: سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ، كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا، إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ [الأنعام: ١٤٨] ، فبين تعالى أن الحامل لهؤلاء على التكذيب بالرسل، والإشراك بالله، اغترارهم بأن لهم الحجة على الله بقولهم لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا [الأنعام: ١٤٨] فشبه تعالى حالهم في الاعتماد على هذا الخيال، بحال أوائلهم. ثم بين أنه معتقد نشأ عن ظن خلّب وخيال مكذب، فقال إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ [الأنعام: ١٤٨] ، ثم لما أبطل أن يكون لهم في مقالتهم حجة على الله، أثبت تعالى الحجة له عليهم بقوله: فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ [الأنعام: ١٤٩] ، ثم أوضح أن الرد عليهم ليس إلا في احتجاجهم على الله بذلك. لا لأن المقالة في نفسها كذب. فقال فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ [الأنعام: ١٤٩] ، وهو معنى قولهم لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا من حيث إن (لو) مقتضاها امتناع الهداية لامتناع المشيئة. فدلت الآية الأخيرة على أن الله تعالى لم يشأ هدايتهم. بل شاء ضلالتهم.
ولو شاء هدايتهم لما ضلوا. فهذا هو الدين القويم، والصراط المستقيم، والنور اللائح والمنهج الواضح. والذي يدحض به حجة هؤلاء، مع اعتقاد أن الله تعالى شاء وقوع الضلالة منهم، هو أنه تعالى جعل للعبد تأتيا وتيسرا للهداية وغيرها. من الأفعال الكسبية. حتى صارت الأفعال الصادرة منه مناط التكليف. لأنها اختيارية. يفرق بالضرورة بينها وبين العوارض القسرية. فهذه الآية أقامت الحجة. ووضحت، لمن اصطفاه الله للمعتقدات الصحيحة، المحجة. ولما كانت تفرقة دقيقة لم تنتظم في سلك الأفهام الكثيفة. فلا جرم أن أفهامهم تبددت. وأفكارهم تبدلت. فغلت طائفة القدرية واعتقدت أن العبد فعال لما يريد على خلاف مشيئة ربه. وجارت الجبرية فاعتقدت أن لا قدرة للعبد البتة ولا اختيار. وأن جميع الأفعال صادرة منه على سبيل الاضطراب. أما أهل الحق فمنحهم الله من هدايته قسطا.