ذكر ما هو ثناء على الذين تحاموا ذلك، فغضوا أصواتهم، دلالة على عظيم موقعه عند الله. ثم جيء على عقب ذلك بما هو أطم، وهجنته أتم، من الصياح برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، في حال خلوته ببعض حرماته من وراء الجدر، كما يصاح بأهون الناس قدرا، لينبه على فظاعة ما أجروا إليه، وجسروا عليه، لأن من رفع الله قدره عن أن يجهر له بالقول، حتى خاطبه جلّة المهاجرين والأنصار بأخي السرار، كان صنيع هؤلاء من المنكر الذي بلغ من التفاحش مبلغا. ومن هذا وأمثاله يقتطف ثمر الألباب، وتقتبس محاسن الآداب، كما يحكى عن أبي عبيد- ومكانه من العلم والزهد وثقة الرواية ما لا يخفى- أنه قال: ما دققت بابا على عالم قط، حتى يخرج في وقت خروجه. انتهى.
الرابع- قال ابن كثير: قال العلماء: يكره رفع الصوت عند قبره صلّى الله عليه وسلّم، كما كان يكره في حياته، لأنه محترم حيّا، وفي قبره صلّى الله عليه وسلّم. وقد روينا عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه سمع صوت رجلين في مسجد النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قد ارتفعت أصواتهما، فحصبهما. ثم ناداهما فقال: من أين أنتما؟ قالا: من أهل الطائف. قال:
لو كنتما من أهل المدينة لأوجعتكما ضربا. انتهى.
الخامس- روى البخاريّ «١» عن عبد الله بن الزبير أنه قدم ركب من بني تميم على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال أبو بكر: أمّر القعقاع بن معبد، وقال عمر: أمّر الأقرع بن حابس.
فقال أبو بكر: ما أردت إلا خلافي! فقال عمر: ما أردت خلافك! فتماريا حتى ارتفعت أصواتهما. فنزل في ذلك يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ.. حتى انقضت الآية.
وفي رواية: فأنزل الله في ذلك يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ ...
الآية.
قال ابن الزبير: فما كان عمر يسمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد هذه الآية حتى يستفهمه. وقد انفرد بهاتين الروايتين البخاريّ دون مسلم.
قال الحافظ ابن حجر: وقد استشكل ذلك! قال ابن عطية: الصحيح أن سبب نزول هذه الآية كلام جفاة الأعراب.
قال ابن حجر: قلت: لا يعارض ذلك هذا الحديث، فإن الذي يتعلق بقصة
(١) أخرجه في: التفسير، ٤٩- سورة الحجرات، ٢- باب إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ، حديث ١٩٤٢.