للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ

وهذا كقوله سبحانه: نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [القصص: ٣] ، وقال نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ [يوسف: ٣] ، وقال: إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ

[القيامة: ١٧- ١٩] ، فإن مثل هذا اللفظ إذا ذكره الله تعالى في كتابه، دل على أن المراد أنه سبحانه بجنوده وأعوانه من الملائكة. فإن صيغة (نحن) يقولها المتبوع المطاع المعظم الذي له جنود يتبعون أمره، وليس لأحد جند يطيعونه كطاعة الملائكة ربهم، وهو خالقهم وربهم، فهو سبحانه العالم بما توسوس به نفسه، وملائكته تعلم، فكان لفظ (نحن) هنا هو المناسب. وكذلك قوله:

وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ فإنه سبحانه يعلم ذلك، وملائكته يعلمون ذلك، كما

ثبت في الصحيحين «١» عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: إذا هم العبد بحسنة كتبت له حسنة، فإن عملها كتبت له عشر حسنات. وإذا هم بسيئة لم تكتب عليه، فإن عملها كتبت سيئة واحدة، وإن تركها لله كتبت له حسنة.

فالملك يعلم ما يهم به العبد من حسنة وسيئة، وليس ذلك من علمهم الغيب الذي اختص الله به.

ثم قال: وقوله: وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ، يقتضي أنه سبحانه وجنده الموكلين بذلك، يعلمون ما توسوس به للعبد نفسه، كما قال أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ [الزخرف: ٨٠] ، فهو يسمع، ومن يشاء من ملائكته. وأما الكتابة، فرسله يكتبون كما قال هاهنا: ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق: ١٨] ، وقال تعالى:

إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ [يس: ١٢] ، وأخبر بالكتابة (نحن) لأن جنده يكتبون بأمره، وفصّل في تلك الآية بين السماع والكتابة، لأنه يسمع بنفسه، وأما كتابه الأعمال فتكون بأمره، والملائكة يكتبون. فقوله: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مثل قوله: نَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ لما كانت ملائكته متقربين إلى العبد بأمره، كما كانوا كاتبين عمله بأمره، فإن ذلك قربه من كل أحد بتوسط الملائكة، كتكليمه عبده بتوسط الرسل، كما قال تعالى وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ [الشورى:

٥١] ، فهذا تكليمه لجميع عباده بواسطة الرسل، وذاك قربه إليهم عند الاحتضار، وعند الأقوال الباطنة في النفس والظاهرة. انتهى كلامه رحمه الله. وقوله تعالى:


(١) أخرجه البخاري في: الرقاق، ٣١- باب من همّ بحسنة أو بسيئة. حديث ٢٤٣٥، عن ابن عباس.
وأخرجه مسلم في: الإيمان، حديث ٢٠٧.

<<  <  ج: ص:  >  >>