لأن التأويل صرف اللفظ عن ظاهره، وهذه المعاني هي الظاهر من هذه الألفاظ، بدليل أنه المتبادر إلى الإفهام منها. وظاهر اللفظ هو ما يسبق إلى الفهم منه، حقيقة كان أو مجازا. ولذلك كان ظاهر الأسماء العرفية، المجاز دون الحقيقة، كاسم الرواية والظعينة وغيرهما من الأسماء العرفية، فإن ظاهر هذا، المجاز دون الحقيقة، وصرفها إلى الحقيقة يكون تأويلا يحتاج إلى دليل وكذلك الألفاظ التي لها عرف شرعيّ، وحقيقة لغوية، كالوضوء والطهارة والصلاة والصوم والزكاة والحج، إنما ظاهرها العرف الشرعيّ دون الحقيقة اللغوية. وإذا تقرر هذا، فالمتبادر إلى الفهم من قولهم (إن الله معك) أي بالحفظ والكلاءة. ولذلك قال الله تعالى فيما أخبر عن نبيّه إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا [التوبة: ٤٠] ، وقال لموسى إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى [طه: ٤٦] ، ولو أراد أنه بذاته مع كل أحد لم يكن لهم بذلك اختصاص، لوجوده في حق غيرهم، كوجوده فيهم، ولم يكن ذلك موجبا لنفي الحزن عن أبي بكر، ولا علة له. فعلم أن ظاهر هذه الألفاظ هو ما حملت عليه، فلم يكن تأويلا. ثم لو كان تأويلا فما نحن تأوّلناه، وإنما السلف رحمة الله عليهم، الذين ثبت صوابهم، ووجب اتباعهم، هم الذين تأوّلوه. فإن ابن عباس والضحاك ومالكا وسفيان وكثيرا من العلماء قالوا في قوله: وَهُوَ مَعَكُمْ أي علمه. ثم قد ثبت بكتاب الله، والمتواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وإجماع السلف، أن الله تعالى في السماء على عرشه، وجاءت هذه اللفظة مع قرائن محفوفة بها دالة على إرادة العلم منها، وهو قوله أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ [المجادلة: ٧] ، ثم قال في آخرها إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ. فبدأها بالعلم، وختمها به، ثم سياقها لتخويفهم بعلم الله تعالى بحالهم، وأنه ينبئهم بما عملوا يوم القيامة ويجازيهم عليه، وهذه قرائن كلها دالة على إرادة العلم، فقد اتفق فيها هذه القرائن، ودلالة الأخبار على معناها، ومقالة السلف وتأويلهم. فكيف يلحق بها ما يخالف الكتاب والأخبار ومقالات السلف؟ فهذا لا يخفى على عاقل إن شاء الله تعالى، وإن خفي فقد كشفناه وبيّنّاه بحمد الله تعالى. ومع هذا لو سكت إنسان عن تفسيرها وتأويلها لم يخرج ولم يلزمه شيء، فإنه لا يلزم أحدا الكلام في التأويل إن شاء الله تعالى.
انتهى كلام ابن قدامة رحمه الله.
وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ أي فيجازيكم عليه.