ولما كان الشرك العملي الإرادي أغلب على النفوس لأجل متابعتها هواها، وكثير منها ترتكبه مع علمها بمضرته وبطلانه، لما لها فيه من نيل الأغراض. وإزالته وقلعه منها أصعب وأشد من قلع الشرك العلمي وإزالته. لأن هذا يزول بالعلم والحجة ولا يمكن صاحبه أن يعلم الشيء على غير ما هو عليه، بخلاف شرك الإرادة والقصد، فإن صاحبه يرتكب ما يدلّه العلم على بطلانه وضرره لأجل غلبة هواه واستيلاء سلطان الشهوة والغضب على نفسه. فجاء من التأكيد والتكرار في سورة قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ المتضمنة لإزالة الشرك العمليّ ما لم يجيء مثله في سورة قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ.
ولما كان القرآن شطرين: شطرا في الدنيا وأحكامها ومتعلقاتها والأمور الواقعة فيها من أفعال المكلفين وغيرها. وشطرا في الآخرة وما يقع فيها. وكانت سورة (إذا زلزلت) قد أخلصت من أولها وآخرها لهذا الشطر، فلم يذكر فيها إلا الآخرة، وما يكون فيها من أحوال الأرض وسكانها، كانت تعدل نصف القرآن. فأحر بهذا الحديث أن يكون صحيحا. والله أعلم.
الخامسة- قال ابن تيمية: سورة قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ أكثرهم على أنها مكية.
وقد ذكر في أسباب نزولها سؤال المشركين بمكة، وسؤال الكفار من أهل الكتاب اليهود بالمدينة. ولا منافاة. فإن الله أنزلها بمكة أولا. ثم لما سئل نحو ذلك أنزلها مرة أخرى. وهذا مما ذكر طائفة من العلماء. وقالوا: إن الآية أو السورة قد تنزل مرتين وأكثر من ذلك. فما يذكر من أسباب النزول المتعددة قد يكون جميعه حقّا. والمراد بذلك أنه إذا حدث سبب يناسبها، نزل جبريل فقرأها عليه، ليعلمه أنها تتضمن جواب ذلك السبب. وإن كان الرسول يحفظها قبل ذلك. انتهى.
وقد تقدم في مقدمة هذا التفسير، ومواضع أخر منه، تحقيق البحث في معنى سبب النزول، بما يدفع المنافاة في أمثال هذا، فراجعه. ولهذه السورة الشريفة تفاسير على حدة. من أمثلها كتابان لشيخ الإسلام ابن تيمية: أحدهما في تفسيرها، والثاني في سر كونها تعدل ثلث القرآن،. فاحتفظ بهما. والله الهادي.