ثمّ قال ابن القيّم: والأدعية والتعوذات بمنزلة السلاح. والسلاح بضاربه لا بحدّه فقط! فمتى كان السلاح سلاحا تاما لا آفة به. والساعد ساعد قويّ، والمانع مفقود، حصلت به النكاية في العدوّ..! ومتى تخلّف واحد من هذه الثلاثة، تخلّف التأثير..! فإن كان الدعاء في نفسه غير صالح، أو الداعي لم يجمع بين قلبه ولسانه في الدعاء، أو كان ثمّ مانع من الإجابة- لم يحصل التأثير..!.
ثم قال ابن القيّم: وهنا سؤال مشهور وهو: أنّ المدعو به إن كان قد قدّر لم يكن بدّ من وقوعه، دعا به العبد أو لم يدع. وإن لم يكن قد قدّر لم يقع، سواء سأله العبد أو لم يسأله. فظنت طائفة صحة هذا السؤال.، فتركت الدعاء وقالت: لا فائدة فيه! وهؤلاء- مع فرط جهلهم وضلالهم- يتناقضون. فإن طرد مذهبهم يوجب تعطيل جميع الأسباب. فيقال لأحدهم إن كان الشبع والريّ قد قدّر لك فلا بد من وقوعهما. أكلت أو لم تأكل. وإن لم يقدرا لم يقعا. أكلت أو لم تأكل. وإن كان الولد قدّر لك، فلا بدّ منه، وطأت الزوجة والأمة أو لم تطأهما. وإن لم يقدّر لم يكن.
فلا حاجة إلى التزويج والتسرّي. وهلمّ جرّا ... فهل يقال: هذا عاقل أو آدميّ؟ بل الحيوان البهيم مفطور على مباشرة الأسباب التي بها قوامه وحياته. فالحيوانات أعقل وأفهم من هؤلاء الذين هم كالأنعام بل هم أضلّ سبيلا.
وتكايس بعضهم. وقال: الاشتغال بالدعاء من باب التعبّد المحض. يثيب الله عليه الداعي من غير أن يكون له تأثير في المطلوب بوجه ما..! ولا فرق- عند هذا الكيّس- بين الدعاء والإمساك عنه بالقلب واللسان في التأثير في حصول المطلوب.
وارتباط الدعاء عندهم به كارتباط السكوت، ولا فرق..! وقالت طائفة أخرى أكيس من هؤلاء: بل الدعاء علامة مجرّدة نصبها الله سبحانه أمارة على قضاء الحاجة.
فمتى وفّق العبد للدعاء كان ذلك علامة له، وأمارة على أنّ حاجته قد قضيت..!
وهذا كما إذا رأيت غيما أسود باردا في زمن الشتاء. فإنّ ذلك دليل وعلامة على أنه يمطر..! قالوا: وهكذا حكم الطاعات مع الثواب، والكفر والمعاصي مع العقاب، هي أمارات محضة لوقوع الثواب والعقاب لا أنّها أسباب له..! وهكذا- عندهم- الكسر مع الانكسار، والحرق مع الإحراق، والإزهاق مع القتل، ليس شيء من ذلك سببا البتة، ولا ارتباط بينه وبين ما يترتب عليه إلّا بمجرد الاقتران العاديّ لا التأثير السببيّ. وخالفوا، بذلك، الحسّ والعقل والشرع وسائر طوائف العقلاء. بل أضحكوا عليهم العقلاء..! والصواب أنّ هاهنا قسما ثالثا غير ما ذكره السائل، وهو: إنّ هذا المقدور قدّر بأسباب، ومن أسبابه الدعاء، فلم يقدر مجرّدا عن سببه ولكن قدّر