من بعده. ثم إنّ حقيقة الاعتكاف هو المكث في بيت الله تقربا إليه. وهو من الشرائع القديمة.
وقال الإمام ابن القيّم في (زاد المعاد) في هديه صلّى الله عليه وسلّم في الاعتكاف: لما كان صلاح القلب واستقامته على طريق سيره إلى الله تعالى متوقفا وعلى جمعيته على الله. ولمّ شعثه بإقباله بالكلية على الله تعالى. فإن شعث القلب لا يلمّه إلّا الإقبال على الله تعالى. وكان فضول الطعام والشراب، وفضول مخالطة الأنام، وفضول الكلام، وفضول المنام، مما يزيده شعثا، ويشتتّه في كلّ واد. ويقطعه عن سيره إلى الله تعالى، أو يضعفه، أو يعوقه ويوقفه- اقتضت رحمة العزيز الرحيم لعباده أن شرع لهم من الصوم ما يذهب فضول الطعام والشراب، ويستفرغ من القلب أخلاط الشهوات المعوّقة له عن سيره إلى الله تعالى. وشرعه بقدر المصلحة بحيث ينتفع به العبد في دنياه وأخراه. ولا يضرّه ولا يقطعه من مصالحه العاجلة والآجلة. وشرع لهم الاعتكاف الذي مقصوده وروحه، عكوف القلب على الله تعالى، وجمعيته عليه، والخلوة به، والانقطاع عن الاشتغال بالخلق، والاشتغال به وحده سبحانه. بحيث يصير ذكره وحبه والإقبال عليه في محلّ هموم القلب وخطراته. فيستولي عليه بدلها، ويصير الهمّ به كلّه، والخطرات كلّها بذكره. والفكرة في تحصيل مراضيه وما يقرب منه. فيكون أنسه بالله بدلا عن أنسه بالخلق. فيعدّه بذلك لأنسه به يوم الوحشة في القبور حين لا أنيس له ولا ما يفرح به سواه. فهذا مقصود الاعتكاف الأعظم. ولما كان المقصود إنما يتم مع الصوم شرع الاعتكاف في أفضل أيام الصوم وهو العشر الأخير من رمضان. ولم ينقل عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه اعتكف مفطرا قط. بل قد قالت عائشة: لا اعتكاف إلّا بصوم. ولم يذكر الله سبحانه الاعتكاف إلّا مع الصوم.
ولا فعله رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلّا مع الصوم. فالقول الراجح في الدليل الذي عليه جمهور السلف، أنّ الصوم شرط في الاعتكاف. وهو الذي كان يرجحه شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية. وأمّا الكلام، فإنّه شرع للأمة حبس اللسان عن كل ما لا ينفع في الآخرة. وأمّا فضول المنام، فإنه شرع لهم من قيام الليل ما هو أفضل من السهر وأحمد عاقبة. وهو السهر المتوسط الذي ينفع القلب والبدن، ولا يعوق عن مصلحة العبد. ومدار أرباب الرياضات والسلوك على هذه الأركان الأربعة. وأسعدهم بها من سلك فيها المنهاج النبويّ المحمديّ. ولم ينحرف انحراف الغالين ولا قصر تقصير المفرطين. ثم قال:
كان صلّى الله عليه وسلّم يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله عزّ وجلّ. وتركه