وجه: أنّ أمرأ مثله- في مسند الإمرة المطاعة- خليق بأن يصفد لا أن يصفد، وأن بعد لا أن يوعد.
وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ.
قال الراغب في (تفسيره) الباب معروف. وعنه استعير لمدخل الأمور المتوصل به إليها وقيل في العلم: باب كذا. وقد سئل عليه السلام عن زيادة القمر ونقصانه. فأنزل الله هذه الآية تنبيها على أظهر فائدته للحسّ، وأبينها له. ثمّ قال:
وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها أي: بأن تطلبوا الأمر من غير وجهه. وذلك أنّه يقال: أتى فلان البيت من بابه- إذا طلب الشيء من وجهه. وقال الشاعر:
أتيت المروءة من بابها وأتى البيت من ظهره: إذا طلب الأمر من غير وجهه. وجعل ذلك مثلا لسؤالهم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عمّا هو ليس من العلم المختص بالنبوّة. وإنّ ذلك عدول عن المنهج، وذلك أنّ العلوم ضربان:
دنيوي، يتعلق بأمر المعاش- كمعرفة الصنائع، ومعرفة حركات النجوم، ومعرفة المعادن، والنبات، وطبائع الحيوانات. وقد جعل لنا سبيلا إلى معرفته على غير لسان نبيّه عليه السلام.
وشريعة: وهو البرّ. ولا سبيل إلى أخذه إلّا من جهته. وهو أحكام التقوى..!
فلمّا جاءوا يسألون النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، عمّا أمكنهم معرفته من غير جهته، أجابهم، ثمّ بيّن لهم أنّه ليس البرّ ترك المنهج في السؤال من النبيّ ما ليس مختصا بعلم نبوّته.
ولكنّ البرّ هو مجرد التقوى: وذلك يكون بالعلم والعمل المختصّ بالدين.
وقال أبو مسلم الأصفهانيّ: المراد من هذه الآية، ما كانوا يعملونه من النسيء.
فإنهم كانوا يخرجون الحجّ عن وقته الذي عينه الله له. فيحرمون الحلال ويحللون الحرام. فذكر إتيان البيوت من ظهورها مثل لمخالفة الواجب في الحجّ وشهوره.
وأمّا ما رواه البخاري «١» وغيره عن أبي إسحاق قال: سمعت البراء رضي الله عنه يقول: نزلت هذه الآية فينا. كانت الأنصار إذا حجّوا فجاؤوا لم يدخلوا من قبل أبواب بيوتهم ولكن من ظهورها. فجاء رجل من الأنصار فدخل من قبل بابه. فكأنه عيّر بذلك، فنزلت وَلَيْسَ الْبِرُّ ... الآية. فالمراد، من نزولها في ذلك، صدقها عليه
(١) أخرجه البخاريّ في: العمرة، ١٨- باب قوله تعالى: وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها.