ومنها ما كان أكثره باطلا أو جميعه: علم العيافة والزجر والكهانة وخط الرمل والضرب بالحصى والطيرة، فأبطلت الشريعة من ذلك الباطل، ونهت عنه. كالكهانة والزجر وخط الرمل. وأقرت الفأل. لا من جهة تطلب الغيب. فإن الكهانة والزجر كذلك. وأكثر هذه الأمور تخرّص على علم الغيب من غير دليل. فجاء النبي صلى الله عليه وسلم بجهة من تعرف علم الغيب مما هو حق محض وهو الوحي والإلهام. وأبقى للناس من ذلك، بعد موته عليه السلام، جزءا من النبوءة وهو الرؤيا الصالحة، وأنموذج من غيره لبعض الخاصة وهو الإلهام والفراسة.
ومنها علم الطب: فقد كان في العرب منه شيء، لا على ما عند الأوائل، بل مأخوذ من تجاريب الأميين، غير مبنيّ على علوم الطبيعة التي يقررها الأقدمون.
وعلى ذلك المساق جاء في الشريعة، ولكن على وجه جامع شاف قليل، يطلع منه على كثير. فقال تعالى: كُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا ... [الأعراف: ٣١] . وجاء في الحديث التعريف ببعض الأدوية لبعض الأدواء، وأبطل من ذلك ما هو باطل:
كالتداوي بالخمر والرقي التي اشتملت على ما لا يجوز شرعا.
ومنها التفنن في علم فنون البلاغة، والخوض في وجوه الفصاحة، والتصرف في أساليب الكلام، وهو أعظم منتحلاتهم، فجاءهم بما أعجزهم من القرآن الكريم. قال تعالى: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً [الإسراء: ٨٨] .
ومنها ضرب الأمثال: وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ [الروم: ٥٨] إلا ضربا واحدا، وهو الشعر، فإن الله نفاه وبرّأ الشريعة منه. قال تعالى في حكايته عن الكفار: وقالوا أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ [الصافات: ٣٦- ٣٧] ، أي لم يأت بشعر، فإنه ليس بحق، ولذلك قال: وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ ... [يس: ٦٩] الآية. وبيّن معنى ذلك في قوله تعالى: وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ [الشعراء: ٢٢٤- ٢٢٦] فظهر أن الشعر ليس مبنيّا على أصل، ولكنه هيمان على غير تحصيل، وقول لا يصدقه فعل، وهذا مضاد لما جاءت به الشريعة إلا ما استثنى الله تعالى. فهذا أنموذج ينبهك على ما نحن بسبيله بالنسبة إلى علوم العرب الأمية. وأما ما يرجع إلى الاتصاف بمكارم الأخلاق، وما ينضاف إليها، فهو أول ما خوطبوا به، وأكثر ما تجد ذلك في السور المكية من حيث كان آنس لهم، وأجرى على ما يتمدح به عندهم، كقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ