للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يعيره بالفقر. وقيل: المنّ أن يتكبر عليه لأجل عطائه. والأذى أن ينتهره أو يوبخه بالمسألة.

وقد قال صلى الله عليه وسلم: «لا يقبل الله صدقة منان»

. وعندي أن المنّ له أصل ومغرس. وهو من أحوال القلب وصفاته. ثم يتفرع عليه أحوال ظاهرة على اللسان والجوارح. فأصله أن يرى نفسه محسنا إليه ومنعما عليه. وحقه أن يرى الفقير محسنا إليه بقبول حق الله عزّ وجلّ منه، الذي هو طهرته ونجاته من النار. وأنه لو لم يقبله لبقي مرتهنا به. فحقه أن يتقلد منة الفقير إذ جعل كفه نائبا عن الله عزّ وجلّ في قبض حق الله عز وجل.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «١» : إن الصدقة تقع بيد الله عز وجل قبل أن تقع في يد السائل»

. فليتحقق أنه مسلّم إلى الله عزّ وجلّ حقه. والفقير آخذ من الله تعالى رزقه بعد صيرورته إلى الله عزّ وجلّ. ولو كان عليه دين لإنسان فأحال به عبده أو خادمه الذي هو متكفل برزقه لكان اعتقاد مؤدي الدين كون القابض تحت منته سفها وجهلا. فإن المحسن إليه هو المتكفل برزقه. أما هو فإنما يقضي الذي لزمه بشراء ما أحبه. فهو ساع في حق نفسه. فلم يمنّ به على غيره؟ ومهما عرف المعاني الثلاثة التي ذكرناها قبل، أو أحدها لم ير نفسه محسنا إلا إلى نفسه.

إما ببذل ماله إظهارا لحب الله تعالى أو تطهيرا لنفسه عن رذيلة البخل، أو شكرا على نعمة المال طلبا للمزيد. وكيفما كان فلا معاملة بينه وبين الفقير حتى يرى نفسه محسنا إليه. ومهما حصل هذا الجهل بأن رأى نفسه محسنا إليه تفرع منه على ظاهره، ما ذكر في معنى المنّ. وهو التحدث به وإظهاره وطلب المكافأة منه بالشكر والدعاء، والخدمة والتوقير والتعظيم، والقيام بالحقوق والتقديم في المجالس، والمتابعة في الأمور. فهذه كلها ثمرات المنّة. ومعنى المنة في الباطن ما ذكرناه. وأما الأذى فظاهره التوبيخ والتعيير وتخشين الكلام وتقطيب الوجه وهتك الستر بالإظهار، وفنون الاستخفاف وباطنه وهو منبعه أمران: أحدهما كراهيته لرفع اليد عن المال وشدة ذلك على نفسه، فإن ذلك يضيق الخلق لا محالة، والثاني رؤيته أنه خير من الفقير وأن الفقير لسبب حاجته أخسّ منه وكلاهما منشؤه الجهل. أما كراهيته تسليم المال فهو حمق. لأن من كره بذل درهم في مقابلة ما يسوي ألفا فهو شديد الحمق، ومعلوم أنه يبذل المال لطلب رضا الله عزّ وجلّ، والثواب في الدار الآخرة.

وذلك أشرف مما بذله أو يبذله لتطهير نفسه عن رذيلة البخل، أو شكره لطلب المزيد. وكيفما فرض فالكراهة لا وجه لها. وأما الثاني فهو أيضا جهل لأنه لو عرف


(١) أخرجه الدارقطني في (الإفراد) من حديث ابن عباس. وقال: غريب من حديث عكرمة عنه. ورواه البيهقي في (شعب الإيمان) بسند ضعيف.

<<  <  ج: ص:  >  >>