للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يكون ورود المتشابه أدل على الله تعالى وعلى صدق أنبيائه، لأن الكذابين إنما يأتون بما يوافق الطباع، كما هو دين القرامطة والزنادقة. وقد أشار السمع إلى ذلك بقوله تعالى: وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ [المؤمنون: ٧١] . وقال في رسول الله صلّى الله عليه وسلم: لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ [الحجرات: ٧] . وكيف يستنكر اختلاف الإنسان الظلوم الجهول وعلام الغيوب الذي جمع معارف العارفين في علمه مثل ما أخذه العصفور في منقاره من البحر الأعظم؟ بل كيف لا يختص هذا الرب الأعظم بمعرفة ما لا نعرفه من الحكم اللطيفة التي يستلزم تفرده بمعرفتها أن يتفرد بمعرفة حسن ما تعلقت به وتأويله، وبهذا ينشرح صدر العارف للإيمان بالمتشابه، والإيمان بالغيب في تأويله. ولنذكر بعد هذا كل واحد من الأمرين المقدم ذكرهما على الإيجاز.

أما الأمر الأول- وهو اختلافهم في ماهيتهما. فمنهم من قال: المحكم ما لا يحتمل إلا معنى واحدا، والمتشابه ما احتمل أكثر من معنى. فهؤلاء رجعوا بالمحكم إلى النص الجليّ، وما عداه متشابه. وعزاه الإمام يحيى إلى أكثر المتكلمين وطوائف من الحشوية. ومنهم من قال: المحكم ما كان إلى معرفته سبيل، والمتشابه ما لا سبيل إلى معرفته بحال، نحو قيام الساعة والحكمة في العدد المخصوص في حملة العرش، وخزنة النار. ومنهم من قصر المتشابه على آيات مخصوصة. ثم اختلفوا، فمنهم من قال: هي الحروف المقطعة في أوائل السور، ومنهم من قال آيات الشقاوة والسعادة، ومنهم من قال: المنسوخ، ومنهم من قال: القصص والأمثال، ومنهم من عكس فقال: المحكم آيات مخصوصة، وهي آيات الحلال والحرام وما عداها متشابه، إلى غير ذلك- حكى الجميع الإمام يحيى في (الحاوي) - واختار أن المحكم ما علم المراد بظاهره بدليل عقليّ أو نقليّ، والمتشابه به ما لم يعلم المراد منه لا على قرب ولا على بعد مثل قيام الساعة والأعداد المبهمة. وقد ترك الإمام والشيخ ابن تيمية وجها آخر من المتشابه الذي يحتاج إلى التأويل مما لا يعلمه إلا الله على الصحيح، وذلك وجه الحكم المعينة فيما لا تعرف العقول وجه حسنه، مثل خلق أهل النار، وترجيح عذابهم على العفو مع سبق العلم وسعة الرحمة وكمال القدرة على كل شيء، والدليل على أن الحكمة الخفية فيه تسمى تأويلا له، ما ذكره الله تعالى في قصة موسى والخضر، فإن قوله: سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً [الكهف: ٧٦] ، صريح في ذلك، وهذا مراد في الآية، لأن الله وصف الذين في قلوبهم زيغ بابتغائهم تأويله وذمهم بذلك، وهم لا يبتغون علم

<<  <  ج: ص:  >  >>