للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يروى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن الحرم لا يعيذ عاصيا ولا فارّا بدم ولا بخربة

، وبأنه لو كان الحدود والقصاص فيما دون النفس لم يعذه الحرم، ولم يمنعه من إقامته عليه، وبأنه لو أتى فيه بما يوجب حدّا أو قصاصا لم يعذه الحرم ولم يمنع من إقامته، فكذلك إذا أتاه خارجه ثم لجأ إليه، إذ كونه حرما بالنسبة إلى عصمته لا يختلف بين الأمرين، وبأنه حيوان أبيح قتله لفساده، فلم يفترق الحال بين قتله لاجئا إلى الحرم وبين كونه قد أوجب ما أبيح قتله فيه، كالحية والحدأة والكلب العقور،

ولأن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال «١» : خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم

. فنبه بقتلهن في الحل والحرم على العلة- وهي فسقهن- ولم يجعل التجاءهن إلى الحرم مانعا من قتلهن، وكذلك فاسق بني آدم الذي قد استوجب القتل. قال الأولون: ليس في هذا ما يعارض ما ذكرنا من الأدلة، ولا سيما قوله تعالى وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وهذا إما خبر بمعنى الأمر لاستحالة الخلف في خبره تعالى، وإما خبر عن شرعه ودينه الذي شرعه في حرمه، وإما إخبار عن الأمر المعهود المستمر في حرمه في الجاهلية والإسلام كما قال تعالى:

أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ [العنكبوت: ٦٧] .

وقوله تعالى: وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا، أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ [القصص: ٥٧] .

وما عدا هذا من الأقوال الباطلة فلا يلتفت إليه كقول بعضهم: من دخله كان آمنا من النار، وقوله بعضهم: كان آمنا من الموت على غير الإسلام، ونحو ذلك، فكم ممن دخله وهو في قعر الجحيم. وأما العمومات الدالة على استيفاء الحدود والقصاص في كل زمان ومكان فيقال أولا: لا تعرض في تلك العمومات لزمان الاستيفاء ولا مكانه، كما لا تعرض فيها لشروطه وعدم موانعه، فإن اللفظ لا يدل عليها بوضعه، ولا بتضمنه فهو مطلق بالنسبة إليها، ولهذا إذا كان للحكم شرط أو مانع لم يقل إن توقف الحكم عليه تخصيص لذلك العام، فلا يقول محصّل إن قوله تعالى: وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ [النساء: ٢٤] . مخصوص بالمنكوحة في عدتها أو بغير إذن وليّها، أو بغير شهود، فهكذا النصوص العامة في استيفاء الحدود والقصاص لا تعرض فيها لزمنه ولا مكانه ولا شرطه ولا مانعه، ولو قدر تناول اللفظ


(١)
أخرجه البخاريّ في: جزاء الصيد، ٧- باب ما يقتل المحرم من الدواب، ونصه: عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «خمس من الدواب كلهنّ فاسق يقتلن في الحرم: الغراب والحدأة والعقرب والفأرة والكلب العقور» .
ومسلم في: الحج، حديث ٦٧.

<<  <  ج: ص:  >  >>