قريبان من الأول. وقيل الباء للمقابلة والعوض، أي أذاقكم غما بمقابلة غم أذقتموه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عصيانكم أمره. قاله الزجاج. وقال الحسن: يريد غم يوم أحد للمسلمين بغم يوم بدر للمشركين، وقيل: المعنى غما بعد غم أي غما مضاعفا. ثم أشار إلى سر ذلك بقوله لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ أي لتتمرنوا بالصبر على الشدائد، والثبات فيها، وتتعودوا رؤية الغلبة والظفر والغنيمة، وجميع الأشياء من الله لا من أنفسكم، فلا تحزنوا على ما فاتكم من الحظوظ والمنافع. وقوله: وَلا ما أَصابَكُمْ من الغموم والمضار.
قال العلامة ابن القيّم في (زاد المعاد) : وقيل جازاكم غما بما غممتم به رسوله بفراركم عنه، وأسلمتموه إلى عدوه. فالغم الذي حصل لكم جزاء على الغم الذي أوقعتموه بنبيه. والقول الأول أظهر لوجوه:
أحدها: أن قوله لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا ما أَصابَكُمْ تنبيه على حكمة هذا الغم بعد الغم، وهو أن ينسيهم الحزن على ما فاتهم من الظفر، وعلى ما أصابهم من الهزيمة والجراح، فنسوا بذلك السلب، وهذا إنما يحصل بالغم الذي يعقبه غم آخر.
الثاني: أنه مطابق للواقع، فإنه حصل لهم غم فوات الغنيمة، ثم أعقبه غم الهزيمة، ثم غم الجراح الذي أصابهم، ثم غم القتل ثم غم سماعهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قتل، ثم غم ظهور أعدائهم على الجبل فوقهم. وليس المراد غمين اثنين خاصة، بل غما متتابعا لتمام الابتلاء والامتحان.
الثالث: أن قوله (بغم) من تمام الثواب، لا أنه سبب جزاء الثواب. والمعنى أثابكم غما متصلا بغم، جزاء على ما وقع منكم من الهرب، وإسلامكم نبيه صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وترك استجابتكم له وهو يدعوكم، ومخالفتكم له في لزوم مركزكم، وتنازعكم في الأمر وفشلكم. وكل واحد من هذه الأمور يوجب غمّا يخصه، فترادفت عليهم الغموم، كما ترادفت منهم أسبابها وموجباتها. ولولا أن تداركهم بعفوه لكان أمرا آخر. ومن لطفه بهم، ورأفته ورحمته، أن هذه الأمور التي صدرت منهم كان من أمور الطباع، وهي من بقايا النفوس التي تمنع من النصرة المستقرة، فقيض لهم بلطفه أسبابا أخرجها من القوة إلى الفعل، فيترتب عليها آثارها المكروهة، فعلموا حينئذ أن التوبة منها، والاحتراز من أمثالها، ودفعها بأضدادها، أمر متعين لا يتم لهم الفلاح والنصرة الدائمة المستقرة إلا به، فكانوا أشد حذرا