شخص واحد يقلد رجلا في جميع أقواله ويخالف من عداه من الصحابة بحيث لا يرد من أقواله شيئا ولا يقبل من أقوالهم شيئا. وهذا من أعظم البدع وأقبح الحوادث. وأما مخالفتهم لأئمتهم فإن الأئمة نهوا عن تقليدهم وحذروا منه. كما تقدم ذكر بعض ذلك عنهم وضبطها والنظر فيها وعرضها على القرآن والسنن الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقوال خلفائه الراشدين. فما وافق ذلك منها قبلوه ودانوا الله تعالى به. وقبضوا به وأفتوا به. وما خالف ذلك منها لم يلتفتوا إليه وردوه. وما لم يتبين لهم كان عندهم من مسائل الاجتهاد التي غايتها أن تكون سائغة الاتّباع لا واجبة الاتّباع. من غير أن يلزموا بها أحدا ولا يقولوا إنها الحق دون ما خالفها. هذه طريقة أهل العلم سلفا وخلفا. وأما هؤلاء الخلف فعكسوا الطريق وقلبوا أوضاع الدين. فزيفوا كتاب الله سبحانه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وأقوال خلفائه وجميع أصحابه، وعرضوها على أقوال من قلدوه، فما وافقها منها قالوا: لنا وانقادوا له مذعنين. وما خالف أقوال متبوعهم منها قالوا: احتج الخصم بكذا وكذا. ولم يقبلوه ولم يدينوا به. واحتال فضلاؤهم في ردها بكل ممكن. وتطلبوا لها وجوه الحيل التي يرونها. حتى إذا كانت موافقة لمذهبهم، وكانت تلك الوجوه بعينها قائمة فيها، شنعوا على منازعهم وأنكروا عليهم ردها بمثل تلك الوجوه بعينها. وقالوا: لا تردّ النصوص بهذا. ومن له همة تسمو إلى الله ومرضاته، ونصر الحق الذي بعث به رسول الله صلى الله عليه وسلم، أين كان ومع من كان، لا يرضى لنفسه بمثل هذا المسلك الوخيم والخلق الذميم. انتهى.
الثالث- إن قيل: لم لا يجوز أن يكون المراد بقوله فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ أي فوّضوا علمه إلى الله واسكتوا عنه ولا تتعرضوا له؟ وأيضا، لم لا يجوز أن يكون المراد فردوا هذه الأحكام إلى البراءة الأصلية؟ قلنا: أما الأول فمدفوع. وذلك لأن هذه الآية دلت على أنه تعالى جعل الوقائع قسمين: منها ما يكون حكمها منصوصا عليه. ومنها ما لا يكون كذلك. ثم أمر في القسم الأول بالطاعة والانقياد. وأمر في القسم الثاني بالاجتهاد فيه، وهو الرد إلى الله وإلى الرسول. ولا يجوز أن يكون المراد بهذا الردّ السكوت، لأن الواقعة ربما كانت لا تحتمل ذلك. بل لا بد من قطع الشغب والخصومة فيها، بنفي أو إثبات. وإذا كان كذلك امتنع حمل الرد إلى الله، على السكوت عن تلك الواقعة. وأما السؤال الثاني- فجوابه أن البراءة الأصلية معلومة بحكم العقل. فلا يكون رد الواقعة إليها ردا إلى الله بوجه من الوجوه. أما إذا رددنا حكم الواقعة إلى الأحكام المنصوص عليها، كان هذا ردا للواقعة على أحكام