للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فتكلموا فيها بالكتاب والسنة. وإنما تكلم بعضهم بالرأي في مسائل قليلة.

والإجماع لم يكن يحتج به عامتهم ولا يحتاجون إليه. إذ هم أهل الإجماع، فلا إجماع قبلهم. لكن لما جاء التابعون كتب عمر إلى شريح: اقض بما في كتاب الله.

فإن لم تجد، فبما في سنة رسول الله. فإن لم تجد، فبما قضى به الصالحون قبلك.

وفي رواية: فبما أجمع عليه الناس. فقدم عمر الكتاب ثم السنة: وكذلك ابن مسعود قال مثل ما قال عمر. قدّم الكتاب ثم السنة، ثم الإجماع. وكذلك ابن عباس كان يفتي بما في الكتاب ثم بما في السنة ثم بسنة أبي بكر وعمر.

لقوله «١» : اقتدوا باللّذين من بعدي: أبي بكر وعمر.

وهذه الآثار ثابتة عن عمر وابن مسعود وابن عباس. وهم من أشهر الصحابة بالفتيا والقضاء. وهذا هو الصواب. ولكن طائفة من المتأخرين قالوا: يبدأ المجتهد ينظر أولا في الإجماع. فإن وجده لم يلتفت إلى غيره. وإن وجد نصّا خالفه اعتقد أنه منسوخ بنص لم يبلغه. وقال بعضهم: الإجماع نسخه.

والصواب طريقة السلف. وذلك لأن الإجماع إذا خالفه نص فلا بد أن يكون مع الإجماع نص معروف به أن ذاك منسوخ. فأما أن يكون النص المحكم قد ضيعته الأمة، وحفظت النص المنسوخ، فهذا لا يوجد قط. وهو نسبة الأمة إلى حفظ ما نهيت عن اتباعه. وإضاعة ما أمرت باتباعه. وهي معصومة عن ذلك. ومعرفة الإجماع قد تتعذر كثيرا أو غالبا. فمن الذي يحيط بأقوال المجتهدين؟ بخلاف النصوص، فإن معرفتها ممكنة متيسرة. وهم إنما كانوا يقضون بالكتاب أوّلا. لأن السنة لا تنسخ الكتاب. فلا يكون في القرآن شيء منسوخ بالسنة. بل إن كان فيه منسوخ، كان في القرآن ناسخه. فلا يقدم غير القرآن عليه. ثم إذا لم يجد ذلك طلبه في السنّة. ولا يكون في السنة شيء منسوخ إلا والسنة نسخته. لا ينسخ السنة إجماع ولا غيره. ولا تعارض السنة بإجماع. وأكثر ألفاظ الآثار. فإن لم يجد فالطالب قد لا يجد مطلوبه في السنة. مع أنها فيها. وكذلك في القرآن. فيجوز له إذا لم يجده في القرآن أن يطلبه في السنة. وإذا كان في السنة لم يكن ما فيه السنة معارضا لما في القرآن.

وكذلك الإجماع الصحيح لا يعارض كتابا ولا سنة. انتهى كلامه قدس الله روحه.


(١)
أخرجه الترمذيّ في: المناقب، ١٦- في مناقب أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، كليهما. ونصه:
عن حذيفة رضي الله عنه قال: كنا جلوسا عند النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: «إني لا أدري ما بقائي فيكم، فاقتدوا باللذين من بعدي» وأشار إلى أبي بكر وعمر.

<<  <  ج: ص:  >  >>