ثم قال: فقد برح الخفاء وانكشف الغطاء وبان للقراء أن لا إجماع بين النصارى أنفسهم على حصول الصلب منذ تكلم الناس فيه حتى الآن. وتفرقت فيه آراؤهم أيدي سبا. وذهبوا فيه كل مذهب. فلا تكاد تجد قولا لأحدهم في أيّ عصر إلا وهو مضادّ لأقوال آخرين منهم على خط مستقيم. حتى لا ترى إلا غوغاء وجلبة المناقضات. فلم يتفقوا على كيفية الصلب ولا على معناه ولا على المراد منه. ولا اجتمع فيه رأيان. كان ذلك من باب التقليد والتسليم، الذي لا يقام عليه دليل أعظم من أن يقال: إن الدين ينبغي أن لا يفهم ولا يدخل معناه السريّ تحت تصور. هذا مع أن الصلب عند النصارى هو قلب دينهم (كما يقولون) وأساس معتقدهم. حتى كأنه بمنزلة التوحيد عند المسلمين. ومع أن نفي الصلب عندنا ليس من الأصول التي انبنى عليها ديننا في شيء، بل لا تخرج مسألته عن كونها من قصص الأولين، كالإخبار عن نوح وإبراهيم وموسى، مما سيق لنحو الوعظ والاعتبار- فلم يهجس بخلد مسلم منذ وجد الإسلام إلى يومنا هذا أن عيسى صلى الله عليه وسلم صلب أو قتل. ولم يخرق إجماع المسلمين على ذلك واحد منهم في كل عصر ومكان. وما ذلك إلا لضبط القرآن الكريم وصيانته. ولو حكّمنا غير متدين في هذه المسألة، ونظر لأهمّيّتها عند النصارى، مع عدم قدرتهم على إثباتها، ولفرعيّتها عند المسلمين، مع إجماعهم على نفيها إجماعا لا مثيل له في العالم- لا نبهر من همة المسلمين في ضبط وحفظ كتابهم، وثباتهم في صغير الأمر وكبيره. وتمنى أن تتدلى الأنجم الزهر ليصوغ منها عقود ثناء ومدح لهم، على عنايتهم بدينهم إلى هذا الحد الذي لا نظير له. ولم يسعه إلا أن يقلب أكف الأسف، ويعضّ بنان الندم على تزعزع دين غيرهم. لدرجة أن أعظم أصل فيه لا يثبت إلا في مخيلات بعض المقلدين. من غير استناد على دليل نقليّ صحيح. أو عقليّ مسلم، حتى قام عقلاؤهم نافضين غبار التقليد، ناشدين الحقيقة. فانجلت، لكثير منهم، عن تدمير هذا البناء التقليديّ. والرجوع إلى ما ثبت بالدليل في ديانة غيرهم. ومما هو جدير بالتنبه له أن بولس الذي عزا إليه كل محققي التاريخ من الإفرنج وغيرهم، أنه وحده المخترع لمسائل الصلب والفداء، وألوهية عيسى إلى غير ذلك- قد أبان أن الصلب والقتل ليسا حقيقيين. كما جاء في رسالته لأهل غلاطية. حيث قال: أنتم الذين رسم يسوع المسيح بينكم مصلوبا.
وقال في رسالته لأهل رومية: نحن نقوم بشبه موته. إلى أن قال: فدفنا معه بالمعمودية، لأنه إن كنا قد صرنا متحدين معه بشبه موته، نصير أيضا بارتفاعه، عالمين أن إنساننا العتيق قد صلب معه إلخ. فيستفاد من مجموع أقوال بولس هذه أن المسيح لم يصلب ولم يقتل حقيقة. وإنما ذلك مجاز عن الشبه المقتول المصلوب.