بأن يقول لأهل الكتاب، الذين بعث إليهم، وهو من كان في وقتهم ومن يأتي من بعدهم إلى يوم القيامة. لم يؤمر أن يقول ذلك لمن قد تاب منهم. وكذلك قوله:
وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللَّهِ [المائدة: ٤٣] ، إخبار عن اليهود الموجودين وأن عندهم التوراة فيها حكم الله. وكذلك قوله: وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ [المائدة: ٤٧] ، هو أمر من الله على لسان محمد لأهل الإنجيل. ومن لا يؤمر على لسان محمد صلى الله عليه وسلم، قيل قبل هذا: إنه قد قيل ليس في العالم نسخة بنفس ما أنزل الله في التوراة والإنجيل بل ذلك مبدّل. فإن التوراة انقطع تواترها. والإنجيل إنما أخذ عن أربعة. ثم من هؤلاء من زعم أن كثيرا مما في التوراة والإنجيل باطل ليس من كلام الله. ومنهم من قال: بل ذلك قليل. وقيل: لم يحرف أحد شيئا من حروف الكتب وإنما حرّفوا معانيها بالتأويل. وهذان القولان، قال كلّا منهما كثير من المسلمين. والصحيح القول الثالث، وهو أن في الأرض نسخا صحيحة وبقيت إلى عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ونسخا كثيرة محرّفة. ومن قال: إنه لا يحرف شيء من النسخ فقد قال ما لا يمكنه نفيه.
ومن قال: جميع النسخ بعد النبيّ صلى الله عليه وسلم حرفت فقد قال ما يعلم أنه خطأ.
والقرآن يأمرهم أن يحكموا بما أنزل الله في التوراة والإنجيل ويخبر أن فيهما حكمه.
وليس في القرآن خبر أنهم غيّروا جميع النسخ. وإذا كان كذلك فنقول: هو سبحانه قال: وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ [المائدة: ٤٧] . وما أنزله الله هو ما تلقوه عن المسيح. فأما حكايته لحاله بعد أن رفع فهو مثلها في التوراة ذكر وفاة موسى عليه السلام. ومعلوم أن هذا الذي في التوراة والإنجيل، من الخبر عن موسى وعيسى بعد توفيهما، ليس هو مما أنزله الله ومما تلقوه عن موسى وعيسى. بل هو مما كبتوه مع ذلك للتعريف بحال توفيهما. وهذا خبر محض من الموجودين بعدهما عن حالهما، ليس هو مما أنزله الله عليهما، ولا هو مما أمرا به في حياتهما، ولا مما أخبرا به الناس وكذلك: لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ [المائدة: ٦٨] . وقوله: وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ [المائدة: ٦٦] . فإن إقامة الكتاب، العمل بما أمر الله به في الكتاب، ومن التصديق بما أخبر به على لسان الرسول.
وما كتبه الذين نسخوه من بعد وفاة الرسول ومقدار عمره ونحو ذلك، ليس هو مما أنزله الله على الرسول، ولا مما أمر به، ولا أخبر به. وقد يقع مثل هذا في الكتب المصنفة. يصنّف الشخص كتابا فيذكر ناسخه، في آخره، عمر المصنف ونسبه