[آل عمران: ٥٩] . فأخبر أنه قال له: كن فيكون. بعد أن خلقه من تراب. ومثل هذا الخبر في القرآن كثير. يخبر أنه تكلم في وقت معين. ونادى في وقت معين.
وقد ثبت في الصحيحين «١» عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه لما خرج إلى الصفا قرأ قوله تعالى: إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ [البقرة: ١٥٨] . قال: نبدأ بما بدأ الله به.
فأخبر أن الله بدأ بالصفا قبل المروة.
والسلف اتفقوا على أن كلام الله منزل غير مخلوق. منه بدأ وإليه يعود. فظن بعض الناس أن مرادهم أنه قديم العين. ثم قالت طائفة: هو معنى واحد. وهو الأمر بكل مأمور والنهي عن كل منهيّ والخبر بكل مخبر. إن عبر عنه بالعربية كان قرآنا، وإن عبر عنه بالعبرانية كان توراة، وإن عبر عنه بالسريانية كان إنجيلا. وهذا القول مخالف للشرع والعقل. وقالت طائفة: هو حروف وأصوات قديمة الأعيان، لازمة لذات الله، لم تزل لازمة لذاته. وأن الباء والسين والميم موجودة مقترنة بعضها ببعض معا. أزلا وأبدا. لم تزل ولا تزال. لم يسبق منها شيء شيئا. وهذا أيضا مخالف للشرع والعقل. وقالت طائفة: إن الله لا يتكلم بمشيئته وقدرته. وإنه في الأزل كان متكلما بالنداء الذي سمعه موسى. وإنما تجدد استماع موسى. لا أنه ناداه حين أتى الوادي المقدس، بل ناداه قبل ذلك بما لا يتناهى. ولكن تلك الساعة سمع النداء.
وهؤلاء وافقوا الذين قالوا: إن القرآن مخلوق، في أصل قولهم. فإن أصل قولهم: إن الرب لا تقوم به الأمور الاختيارية. فلا يقوم به كلام ولا فعل باختياره ومشيئته. وقالوا:
هذه حوادث. والرب لا تقوم به الحوادث. فخالفوا صحيح المنقول وصريح المعقول.
واعتقدوا أنهم بهذا يردون على الفلاسفة ويثبتون حدوث العالم. وأخطئوا في ذلك. فلا للإسلام نصروا ولا للفلاسفة كسروا. وادعوا أن الرب لم يكن قادرا في الأزل على كلام يتكلم به، ولا فعل يفعله. وأنه صار قادرا بعد أن لم يكن قادرا. بغير أمر حدث. أو يغيّرون العبارة فيقولون: لم يزل قادرا. لكن يقولون: إن المقدور كان ممتنعا. وإن الفعل صار ممكنا له، بعد أن صار ممتنعا عليه. من غير تجدد شيء.
وقد يعبرون عن ذلك بأن يقولوا: كان قادرا في الأزل على ما يمكن، فيما لا يزال على ما لا يمكن في الأزل. فيجمعون بين النقيضين. حيث يثبتونه قادرا في حال كونه المقدور عليه ممتنعا عندهم. ولم يفرقوا بين نوع الكلام والفعل، وبين عينه كما لم يفرّق الفلاسفة بين هذا وهذا. بل الفلاسفة ادعوا أن مفعوله المعين قديم
(١) أخرجه مسلم في: الحج، ١٩- باب حجة النبيّ صلى الله عليه وسلم، حديث ١٤٧.