للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بقدمه. فضلّوا في ذلك وخالفوا صريح المعقول وصحيح المنقول. فإن الأدلة لا تدل على قدم شيء بعينه من العالم. بل تدل على أن ما سوى الله مخلوق حادث. بعد أن لم يكن. إذ هو فاعل بقدرته ومشيئته. كما تدل على ذلك الدلائل القطعية. والفاعل بمشيئته لا يكون شيء من مفعوله لازما، بصريح العقل واتفاق عامة العقلاء. بل وكل فاعل لا يكون شيء من مفعوله لازما لذاته. ولا يتصور مقارنة مفعوله المعين، له. ولو قدر أنه فاعل بغير إرادة. فكيف بالفاعل بالإرادة؟ وما يذكر بأن المعلول يقارن علته، إنما يصح فيما كان من العلل يجري مجرى الشروط. فإن الشرط لا يجب أن يتقدم على المشروط. بل قد يقارنه. كما تقارن الحياة العلم. وأما ما كان فاعلا، سواء سمي علة أو لم يسم، فلا بد أن يتقدم على الفعل المعين. والفعل المعين لا يجوز أن يقارنه شيء من مفعولاته. ولا يعرف العقلاء فاعلا قط يلتزمه مفعول معين. وقول القائل (حركت يدي فتحرك الخاتم) هو من باب الشروط لا من باب الفاعلين. ولأنه لو كان العالم قديما لكان فاعله موجبا بذاته في الأزل. ولم يتأخر عنه موجبه ومقتضاه. ولو كان كذلك لم يحدث شيئا من الحوادث. وهذا خلاف المشاهدة. وإن كان هو سبحانه لم يزل قادرا على الكلام والفعل. بل لم يزل متكلما إذ شاء، فاعلا لما يشاء، ولم يزل موصوفا بصفات الكمال، منعوتا بنعوت الجلال والإكرام. والعالم فيه من الإحكام والإتقان ما دل على علم الرب. وفيه من الاختصاص ما دل على مشيئته. وفيه من الإحسان ما دل على رحمته. وفيه من العواقب الحميدة ما دل على حكمته. وفيه من الحوادث ما دل على قدرة الرب تعالى. مع أن الرب مستحق لصفات الكمال لذاته، فإنه مستحق لكل كمال ممكن للوجود. لا نقص فيه. منزه عن كل نقص. وهو سبحانه ليس له كفؤ في شيء من أموره. فهو موصوف بصفات الكمال على وجه التفصيل. منزه فيها عن التشبيه والتمثيل. ومنزه عن النقائص مطلقا. فإن وصفه بها من أعظم الأباطيل. وكماله من لوازم ذاته المقدسة. لا يستفيده من غيره. بل هو المنعم على خلقه بالخلق والإنشاء. وما جعله فيهم من صفات الأحياء. وخالق صفات الكمال أحق بها من لا كفؤ له فيها وأصل اضطراب الناس في مسألة كلام الله، أن الجهمية والمعتزلة، لما ناظرت الفلاسفة في مسألة حدوث العالم، اعتقدوا أن ما يقوم به من الصفات والأفعال المتعاقبة لا يكون إلا حادثا. بناء على أن ما لا يتناهى لا يمكن وجوده.

والتزموا أن الرب كان في الأزل غير قادر على الفعل والكلام. بل كان ذلك ممتنعا عليه. وكان معطلا عن ذلك. وقد يعبرون عن ذلك بأنه كان قادرا في الأزل على

<<  <  ج: ص:  >  >>