للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وأيضا فإذا قال لشجاع: هذا الأسد فعل اليوم كذا. أو لبليد: هذا الحمار قال اليوم كذا. أو لعالم، أو جواد: هذا البحر جرى منه اليوم كذا- أن يكون حقيقة، لأن قوله هذا قرينة لفظية، فلا يبقى قط مجازا. وإن قال: المتصل أعم من ذلك. وهو ما كان موجودا حين الخطاب. قيل له: فهذا أشد عليك من الأول. فإن كلّ متكلم بالمجاز لا بد أن يقترن به حال الخطاب ما بيّن مراده، وإلا لم يجز التكلم به. فإن قيل: أنا أجوّز تأخير البيان عن مورد الخطاب إلى وقف الحاجة. قيل: أكثر الناس لا يجوزون أن يتكلم بلفظ يدل على معنى، وهو لا يريد ذلك المعنى إلّا إذا بيّن. وإنما يجوزون تأخير بيان ما لم يدل اللفظ عليه كالمجملات. ثم نقول: إذا جوزت تأخير البيان، فالبيان قد يحصل بجملة تامة، وبأفعال من الرسول وبغير ذلك. ولا يكون البيان المتأخر إلا مستقلا بنفسه. لا يكون مما يجب اقترانه بغيره. فإن جعلت هذا مجازا لزم أن يكون ما يحتاج في العمل إلى بيان مجازا. كقوله: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها [التوبة: ١٠٣] ، ثم يقال: هب أن هذا جائز عقلا، لكن ليس واقعا في الشريعة أصلا، وجميع ما يذكر من ذلك باطل كما قد بسط في موضعه. فإن الذين قالوا: الظاهر الذي لم يرد به ما يدل عليه ظاهره قد يؤخر بيانه، احتجوا بقوله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً [البقرة: ٦٧] ، وادعوا أنها كانت معيّنة، وأخّر بيان التعيين. وهذا خلاف ما استفاض عن السلف من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، من أنهم أمروا ببقرة مطلقة. فلو أخذوا بقرة من البقر فذبحوها أجزأ عنهم. ولكن شددوا فشدد الله عليهم. والآية نكرة في سياق الإثبات، فهي مطلقة. والقرآن يدل سياقه على أن الله ذمّهم على السؤال بما هي؟ ولو كان المأمور به معينا لما كانوا ملومين. ثم إن مثل هذا لم يقطع قط في أمر الله ورسوله أن يأمر عباده بشيء معين ويبهمه عليهم مرة بعد مرة، ولا يذكره بصفات تختص به ابتداء.

واحتجوا بأن الله أخر بيان لفظ الصلاة والزكاة والحج. وأن هذه ألفاظ لها معاني في اللغة. بخلاف الشرع. وهذا غلط. فإن الله إنما أمرهم بالصلاة بعد أن عرفوا ما المأمور به. وكذلك الصيام. وكذلك الحج. ولم يؤخر الله قط بيان شيء من هذه المأمورات. ولبسط هذه المسألة موضع آخر. وأما قول من يقول: إن الحقيقة ما يسبق إلى الذهن عند الإطلاق، فمن أفسد الأقوال. فإنه لا يقال: إذا كان اللفظ لم ينطق به إلا مقيدا فإنه يسبق إلى الذهن في كل موضع منه ما دل عليه ذلك الموضع.

وأما إذا أطلق فهو لا يستعمل في الكلام مطلقا قط. فلم يبق له حال إطلاق محض، حتى يقال: إن الذهن يسبق إليه أم لا. وأيضا، فأي ذهن؟ فإن العربيّ الذي يفهم

<<  <  ج: ص:  >  >>