للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

كلام العرب يسبق إلى ذهنه من اللفظ ما لا يسبق إلى ذهن النبطيّ الذي صار يستعمل الألفاظ في غير معانيها. ومن هنا غلط كثير من الناس. فإنهم قد تعودوا ما اعتادوه. إما من خطاب عامتهم، وإما من خطاب علمائهم، باستعمال اللفظ في معنى. فإذا سمعوه في القرآن والحديث ظنوا أنه مستعمل في ذلك المعنى، فيحملون كلام الله ورسوله على لغتهم النبطية وعادتهم الحادثة. وهذا مما دخل به الغلط على طوائف. بل الواجب أن يعرف اللغة والعادة والعرف الذي نزل به القرآن والسنة، وما كان الصحابة يفهمون من الرسول عند سماع تلك الألفاظ. فبتلك اللغة والعادة والعرف خاطبهم الله ورسوله. لا بما حدث بعد ذلك. وأيضا، فقد بيّنا في غير هذا الموضع أن الله ورسوله لم يدع شيئا من القرآن والحديث إلا بين معناه للمخاطبين ولم يحوجهم إلى شيء آخر. كما قد بسطنا القول فيه في غير هذا الموضع. فقد بين أن ما يدعيه هؤلاء من اللفظ المطلق من جميع القيود لا يوجد إلا مقدّرا في اللسان. لا موجودا في الكلام المستعمل. كما أن ما يدعيه المنطقيون من المعنى المطلق من جميع القيود، لا يوجد إلا مقدّرا في الذهن. لا يوجد في الخارج شيء موجود خارج عن كل قيد. ولهذا كان ما يدعونه من تقسيم العلم إلى تصور وتصديق وإن التصور هو تصور المعنى الساذج الحالي عن كل قيد- لا يوجد.

وكذلك ما يدعونه من البسائط التي تتركب منها الأنواع. وأنها أمور مطلقة عن كل قيد- لا توجد. وما يدعونه من أن واجب الوجود هو وجود مطلق عن كل أمر ثبوتيّ- لا يوجد. فهذه الصفات المطلقات عن جميع القيود ينبغي معرفتها لمن ينظر في هذه العلوم. فإنه بسبب ظن وجودها ضلّ طوائف في العقليات والسمعيات.

بل إذا قال العلماء: مطلق ومقيّد، إنما يعنون به مطلق من ذلك القيد ومقيّد بذلك القيد. كما يقولون: «الرقبة» مطلقة في آية كفارة اليمين، ومقيدة في آية القتل. أي مطلقة عن قيد الإيمان. وإلا فقد قيل فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ [المجادلة: ٣] ، فقيدت بأنها رقبة واحدة. وأنها هي موجودة. وأنها تقبل التحرير. والذين يقولون بالمطلق المحض يقولون هو الذي لا يتصف بوحدة ولا كثرة، ولا وجود ولا عدم، ولا غير ذلك. بل هو الحقيقة من حيث هي هي. كما يذكره الرازيّ تلقيا له عن ابن سينا وأمثاله من المتفلسفة. وقد بسطنا الكلام في هذا الإطلاق والتقييد والكليات والجزئيات في مواضع غير هذا. وبينا من غلط هؤلاء في ذلك ما ليس هذا موضعه.

وإنما المقصود هنا الإطلاق اللفظيّ. وهو أن يتكلم باللفظ مطلقا عن كل قيد. وهذا لا وجود له. وحينئذ فلا يتكلم أحد إلا بكلام مؤلف مقيد مرتبط بعضه ببعض.

<<  <  ج: ص:  >  >>