للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فتكون تلك القيود ممتنعة الإطلاق.

فتبين أنه ليس لمن فرق بين الحقيقة والمجاز فرق معقول يمكن التمييز بين نوعين. فعلم أن هذا التقسيم باطل. وحينئذ فكل لفظ موجود في كتاب الله ورسوله، فإنه مقيّد بما يبين معناه. فليس في شيء من ذلك مجاز. بل كله حقيقة.

ولهذا لما ادعى كثير من المتأخرين أن في القرآن مجازا، وذكروا ما يشهد لهم، رد عليهم المنازعون جميع ما ذكروه. فمن أشهر ما ذكروه قوله تعالى: جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ [الكهف: ٧٧] ، قالوا: والجدار ليس بحيوان والإرادة إنما تكون للحيوان.

فاستعمالها في ميل الجدار مجاز.

فقيل لهم: لفظ الإرادة قد استعمل في الميل الذي يكون معه شعور. وهو ميل الحيّ. وفي الميل الذي لا شعور فيه. وهو ميل الجماد. وهو من مشهور اللغة. يقال:

هذا السقف يريد أن يقع. وهذه الأرض تريد أن تحرث. وهذا الزرع يريد أن يسقى.

وهذا الثمر يريد أن يقطف وهذا الثوب يريد أن يغسل. وأمثال ذلك. واللفظ إذا استعمل في معنيين فصاعدا، فإما أن يجعل حقيقة في أحدهما، مجازا في الآخر، أو حقيقة فيما يختص به كل منهما فيكون مشتركا اشتراكا لفظيا، أو حقيقة في القدر المشترك بينهما. وهي الأسماء المتواطئة وهي الأسماء العامة كلها. وعلى الأول يلزم المجاز. وعلى الثاني يلزم الاشتراك. وكلاهما خلاف الأصل. فوجب أن يجعل من المتواطئة. وبهذا يعرف عموم الأسماء العامة كلها. وإلا فلو قال قائل في ميل الجماد:

حقيقة، وفي ميل الحيوان: مجاز، لم يكن بين الدعويين فرق، إلا كثرة الاستعمال في ميل الحيوان. لكن يستعمل مقيدا بما يبين أنه أريد ميل الجماد. والقدر المشترك بين مسميات الأسماء المتواطئة أمر كلّي عام. لا يوجد كليّا عاما إلا في الذهن. وهو مورد التقسيم بين الأنواع. لكن ذلك المعنى العام الكليّ كان أهل اللغة لا يحتاجون إلى التعبير عنه. لأنهم إنما يحتاجون إلى ما يوجد في الخارج. وإلى ما يوجد في القلوب في العادة. وما لا يكون في الخارج إلا مضافا إلى غيره، لا يوجد في الذهن مجردا. بخلاف لفظ الإنسان والفرس، فإنه لما كان يوجد في الخارج غير مضاف تعودت الأذهان، ومسمى الفرس بخلاف تصور مسمى الإرادة، ومسمى العلم ومسمى القدرة ومسمى الوجود المطلق العام. فإن هذا لا يوجد في اللغة لفظ مطلق يدل عليه. بل لا يوجد لفظ الإرادة إلا مقيدا بالمريد. ولا لفظ العلم إلا مقيدا بالعالم، ولا لفظ القدرة إلا مقيدا بالقادر. بل وهكذا سائر الأعراض، لمّا لم توجد إلا في محالها مقيدة بها، لم يكن في اللغة لفظ إلا كذلك. فلا يوجد في اللغة لفظ

<<  <  ج: ص:  >  >>