للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يصح إيمان أحد إلا به معلوم بالاضطرار من دين الإسلام. وهؤلاء يخالفون الصابئة الفلاسفة الذين يقولون بقدم العالم وبأن النبوة كمال يفيض على نفس النبيّ. لأن هؤلاء المتكلمين أكثر حقّا وأتبع للأدلة العقلية والسمعية، لما تنورت به قلوبهم من نور الإسلام والقرآن. وإن كانوا قد ضلوا في كثير مما جاء به الرسل. لكن هم خير من أولئك من وجوه أخرى وافقوا فيها. فوافقوا أولئك على أن الله لم يتكلم. كما وافقوهم على أنه لا علم له ولا قدرة ولا صفة من الصفات. ورأوا أن إثباته متكلما يقتضي أن يكون جسما. والجسم حادث. لأنه من الصفات الدالة على حدوث الموصوف. بل هو عندهم أدل على حدوث المتكلم من غيره. لأنه يفتقر من المخارج إلى ما لا يفتقر إليه غيره. ولأن فيه من الترتيب والتقديم والتأخير ما ليس في غيره. ولما رأوا أن الرسل اتفقت على أنه متكلم، والقرآن مملوء من إثبات ذلك- صاروا تارة يقولون: متكلم مجازا لا حقيقة. وهذا قولهم الأول لما كانوا في بدعتهم على الفطرة. قبل أن يدخلوا في المعاندة والجحود. ثم إنهم رأوا هذا شنيعا فقالوا:

بل هو متكلم حقيقة. وربما حكى بعض متكلميهم الإجماع. وليس عندهم كذلك.

بل حقيقة قولهم وأصله، عند من عرفه وابتدعه: إن الله ليس بمتكلم. وقالوا:

المتكلم من فعل الكلام، ولو في محل منفصل عنه. ففسروا المتكلم في اللغة بمعنى لا يعرف في لغة العرب ولا غيرهم، لا حقيقة ولا مجازا. وهذا قول من يقول: القرآن مخلوق. وهو أحد قولي الصابئة الذين يوافقون الرسل في حدوث العالم. وهو وإن كفر بما جاءت به الرسل، فليس هو في الكفر مثل القول الأول. لأن هؤلاء لا يقولون:

إن الله أراد أن يبعث رسولا معينا، وأن ينزل عليه هذا الكلام الذي خلقه. وأنكروا أن يكون متكلما على الوجه الذي دلت عليه الكتب الإلهية، واتفقت عليه أهل الفطرة السليمة. ونشأ بين هؤلاء الذين هم فروع الصابئة، وبينا لمؤمنين أتباع الرسل، الخلاف. فكفر هؤلاء ببعض ما جاءت به الرسل من وصف الله بالكلام والتكليم.

واختلفوا في كتاب الله فآمنوا ببعض وكفروا ببعض. واتبع المؤمنون ما أنزل إليهم من ربهم من أن الله تكلم بالقرآن. وأنه كلم موسى تكليما. وأنه يتكلم. ولم يحرفوا الكلم عن مواضعه كما فعل الأولون. بل ردوا تحريف أولئك ببصائر الإيمان، الذي علموا به مراد الرسل من أخبارهم برسالة الله وكلامه. وتبعوا هذا القرآن والحديث وإجماع السلف من الصحابة والتابعين وسائر أتباع الأنبياء. وعلموا أن قول هؤلاء أخبث من قول اليهود والنصارى. حتى كان ابن المبارك إمام المسلمين يقول: إنّا لنحكي كلام اليهود والنصارى، ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهمية. وكان قد كثر

<<  <  ج: ص:  >  >>