للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ثم يقولون: وما كان غير الله فهو مخلوق. وهذا تلبيس منهم. فإن لفظ (الغير) يراد به ما يجوز مبائنته للآخر ومفارقته له. وعلى هذا فلا يجوز أن يقال: علم الله غيره ولا كلامه غيره. ولا يقال: إن الواحد من العشرة غيرها. وأمثال ذلك. وقد يقال بلفظ (الغير) ما ليس هو الآخر. وعلى هذا فتكون الصفة غير الموصوف. ولكن على هذا المعنى، لا يكون ما هو غير ذات الله الموصوفة بصفاته- مخلوقا. لأن صفاته ليست هي الذات. لكن قائمة بالذات. والله سبحانه وتعالى هو الذات المقدسة الموصوفة بصفات كماله. وليس الاسم اسما لذات لا صفات لها. بل يمتنع وجود ذات لا صفات لها. والصواب في مثل هذا أن يقال: الكلام صفة المتكلم.

والقول صفة القائل. وكلام الله ليس مبائنا منه. بل أسمعه لجبرئيل ونزّله به على محمد صلى الله عليه وسلم. كما قال تعالى: وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ. ولا يجوز أن يقال: إن كلام الله فارق ذاته وانتقل إلى غيره.

بل يقال كما قال السلف: إنه كلام الله غير مخلوق. منه بدا وإليه يعود.

فقولهم (منه بدا) رد على من قال (إنه مخلوق في بعض الأجسام، ومن ذلك المخلوق ابتدأ) فبينوا أنه الله هو المتكلم به. ومنه بدا، لا من بعض المخلوقات.

(وإليه يعود) أي: فلا يبقى في الصدور منه آية، ولا في المصاحف حرف. وأما القرآن فهو كلام الله. فمن قال: إن القرآن، الذي هو كلام الله، غير الله- فخطؤه وتلبيسه كخطإ من قال: إن الكلام غير المتكلم. وكذلك من قال: إن الله له مقروء غير القرآن الذي تكلم به، فخطؤه ظاهر. وكذلك: أن القرآن الذي يقرؤه المسلمون غير المقروء الذي يقرؤه المسلمون- فقد أخطأ. وإن أراد بالقرآن مصدر (قرأ يقرأ قراءة وقرآنا) وقال: أردت القراءة غير المقروء، فلفظ القراءة مجمل قد يراد بالقراءة القرآن، وقد يراد بالقراءة المصدر، فمن جعل القراءة التي هي المصدر، قال: القارئ غير المقروء. كما يجعل التكلم الذي فعله غير الكلام الذي هو يقول، وأراد ب (الغير) أنه ليس هو إياه- فقد صدق. فإن الكلام الذي يتكلم به الإنسان يتضمن فعلا كالحركة، ويتضمن ما يقترن بالفعل من الحروف والمعاني. ولهذا يجعل القول قسيما للفعل تارة، وقسيما منه أخرى. فالأول كما يقال: الإيمان قول وعمل. ومنه

قوله صلى الله عليه وسلم «١» : إن الله تجاوز لأمتي عما وسوست أو حدثت به أنفسها ما لم تعمل به أو تكلم.

ومنه قوله تعالى: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ


(١) أخرجه البخاريّ في: الأيمان والنذور، ١٥- باب إذا حنث ناسيا في الأيمان، حديث ١٢٤٢، عن أبي هريرة.

<<  <  ج: ص:  >  >>