للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الثاني أبدا يكون أعلى رتبة، فمعارض بأمثلة لا تقتضي ذلك. كقول القائل: ما عابني على هذا الأمر زيد ولا عمرو. قلت: وكقولك لا تؤذ مسلما ولا ذمّيّا. فإن هذا الترتيب وجه الكلام. والثاني أدنى وأخفض درجة. ولو ذهبت تعكس هذا، فقلت:

لا تؤذ ذميّا ولا مسلما، ليجعل الأعلى ثانيا، لخرجت عن حد الكلام وقانون البلاغة.

وهذا المثال بين ما يورد في نقض القانون المقرر. ولكن الحق أولى من المراء. وليس بين المثالين تعارض. ونحن نمهد تمهيدا يرفع اللبس ويكشف الغطاء. فنقول:

النكتة في الترتيب في المثالين الموهوم تعارضهما واحدة. وهي توجب في مواضع تقديم الأعلى، وفي مواضع تأخيره. وتلك النكتة مقتضى البلاغة التنائي عن التكرار والسلامة عن النزول. فإذا اعتمدت ذلك فمهما أدى إلى أن يكون آخر كلامك نزولا بالنسبة إلى أوله، أو يكون الآخر مندرجا في الأول، قد أفاده. وأنت مستغن عن الآخر فاعدل عن ذلك إلى ما يكون ترقيا من الأدنى إلى الأعلى، واستئنافا لفائدة لم يشتمل عليها الأول. مثاله الآية المذكورة. فإنك لو ذهبت فيها إلى أن يكون المسيح أفضل من الملائكة وأعلى رتبة، لكان ذكر الملائكة بعده كالمستغنى عنه. لأنه إذا كان الأفضل وهو المسيح، على هذا التقدير، عبدا لله غير مستنكف من العبودية- لزم من ذلك أن من دونه في الفضيلة أولى أن لا يستنكف عن كونه عبدا لله، وهم الملائكة على هذا التقدير. فلم يتجدد إذا بقوله لَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ

إلا ما سلف أول الكلام. وإذا قدرت المسيح مفضولا بالنسبة إلى الملائكة، فإنك ترقيت من تعظيم الله تعالى بأن المفضول لا يستنكف عن كونه عبدا له، إلى أن الأفضل لا يستنكف عن ذلك. وليس يلزم من عدم استنكاف المفضول عدم استنكاف الأفضل. فالحاجة داعية إلى ذكر الملائكة. إذ لم يستلزم الأول الآخر. فصار الكلام على هذا التقدير تتجدد فوائده وتتزايد. وما كان كذلك تعين أن يحمل عليه الكتاب العزيز. لأنه الغاية في البلاغة. وبهذه النكتة يجب أن نقول: لا تؤذ مسلما ولا ذميّا. فتؤخر الأدنى على عكس الترتيب في الآية. لأنك إذا نهيته عن إيذاء المسلم، فقد يقال ذاك من خواصه احتراما للإسلام. فلا يلزم من ذلك نهيه عن الكافر المسلوبة عنه هذه الخصوصية. فإذا قلت: ولا ذميّا- فقد جددت فائدة لم تكن في الأول. وترقيت من النهي عن بعض أنواع الأذى، إلى النهي عن أكثر منه. ولو رتبت هذا المثال كترتيب الآية، فقلت: لا تؤذ ذميّا، فهم المنهيّ أن أذى المسلم أدخل في النهي. إذ يساوي الذميّ في سبب الاحترام وهو الإنسانية مثلا، ويمتاز عنه بسبب أجلّ وأعظم وهو الإسلام. فيقنعه هذا النهي عن تجديد نهي آخر عن أذى المسلم.

<<  <  ج: ص:  >  >>