للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فإن قلت: لم جاز أن يعبر عن إرادة الفعل بالفعل؟ قلت: لأن الفعل يوجد بقدرة الفاعل عليه وإرادته له، وهو قصده إليه وميله وخلوص داعيه. فكما عبر عن القدرة على الفعل بالفعل في قولهم: الإنسان لا يطير، والأعمى لا يبصر، أي: لا يقدران على الطيران والإبصار. ومنه قوله تعالى: نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ يعني إنا كنا قادرين على الإعادة- كذلك عبر عن إرادة الفعل بالفعل، وذلك لأن الفعل مسبب عن القدرة والإرادة. فأقيم المسبب مقام السبب للملابسة بينهما. ولإيجاز الكلام ونحوه، من إقامة المسبب مقام السبب، قولهم: كما تدين تدان. عبّر عن الفعل المتبدأ- الذي هو سبب الجزاء- بلفظ الجزاء الذي هو مسبب عنه.

الثانية: ظاهر الآية وجوب الوضوء على كل قائم إلى الصلاة وإن لم يكن محدثا. نظرا إلى عموم الَّذِينَ آمَنُوا من غير اختصاص بالمحدثين. والجمهور على خلافه لما

روى الإمام أحمد «١» ومسلم وأهل السنن عن بريدة قال: «كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يتوضأ عند كل صلاة. فلما كان يوم الفتح توضأ ومسح على خفيه وصلى الصلوات بوضوء واحد، فقال: له عمر: يا رسول الله! إنك فعلت شيئا لم تكن تفعله. قال: إني عمدا فعلته يا عمر» .

وروى البخاري «٢» عن سويد بن النعمان قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، عام خيبر. حتى إذا كنا بالصهباء صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم العصر. فلما صلى دعا بالأطعمة. فلم يؤت إلّا بالسويق. فأكلنا وشربنا. ثم قام النبي صلى الله عليه وسلم إلى المغرب. فمضمض ثم صلى لنا المغرب ولم يتوضأ.

وروى الإمام أحمد «٣» وأبو داود عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر، وقد سئل عن وضوء أبيه عبد الله، لكل صلاة، طاهرا أو غير طاهر، عمن هو؟ قال: حدثته أسماء بنت زيد بن الخطاب؟ إنّ عبد الله بن حنظلة بن الغسيل حدثها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أمر بالوضوء لكل صلاة طاهرا أو غير طاهر. فلما شقّ ذلك عليه أمر بالسواك عند كل صلاة، ووضع عنه الوضوء إلّا من حدث.

فكان عبد الله يرى أنه به قوة على ذلك. كان يفعله حتى مات. قال ابن كثير: وفي فعل ابن عمر هذا، ومداومته على إسباغ الوضوء لكل صلاة، دلالة على استحباب ذلك. كما هو مذهب الجمهور.


(١) أخرجه الإمام أحمد في مسنده ٥/ ٣٥٠.
(٢) أخرجه البخاريّ في: الوضوء، ٥١- باب من مضمض من السويق ولم يتوضأ، حديث ١٥٨.
(٣) أخرجه الإمام أحمد في المسند ٥/ ٢٢٥.
وأبو داود في: الطهارة، ٢٥- باب السواك، حديث ٤٨.

<<  <  ج: ص:  >  >>