وقوله تعالى: وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ أي من اليهود ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ من جوامع الخيرات طُغْياناً أي: عدوانا على الناس، أو تماديا في الجحود وَكُفْراً أي: في أنفسهم بعد كفرهم وطغيانهم بالتحريف وأخذ الرشوة أوّلا. وهذا من إضافة الفعل إلى السبب. أي: يزدادون طغيانا وكفرا بما أنزل، كما قال:
قال الحافظ ابن كثير: أي يكون ما آتاك الله، يا محمّد، من النعمة نقمة في حقّ أعدائك من اليهود وأشباههم. فكما يزداد به المؤمنون تصديقا وعملا صالحا وعلما نافعا، يزداد به الكافرون الحاسدون لك ولأمتك، طغيانا- وهو المبالغة والمجاوزة للحدّ في الأشياء- وكفرا أي تكذيبا. كما قال تعالى: قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى [فصلت:
٤٤] ، وقال تعالى: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً [الإسراء: ٨٢] .
وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ فكلمتهم أبدا مختلفة وقلوبهم شتى، لا يقع بينهم اتفاق ولا تعاضد.
وقد ذكر الشهرستانيّ أنهم افترقوا نيّفا وسبعين فرقة. ولما قدم النبيّ صلى الله عليه وسلم المدينة، كان اليهود ثلاث طوائف حول المدينة: بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة. وبسط ما جرياتهم، وهدية صلى الله عليه وسلم في شأنهم، مبسوط في (زاد المعاد) لابن القيم. فراجعه.
قال الرازيّ: واعلم أن اتصال هذه الآية بما قبلها، هو أنه تعالى بيّن أنهم إنما ينكرون نبوّته بعد ظهور الدلائل على صحتها، لأجل الحسد ولأجل حب الجاه والتبع والمال والسيادة. ثم إنه تعالى بيّن أنهم، لما رجّحوا الدنيا على الآخرة، لا جرم أن الله تعالى، كما حرمهم سعادة الدين، فكذلك حرمهم سعادة الدنيا، لأن كل فريق منهم بقي مصرّا على مذهبه ومقالته. يبالغ في نصرته ويطعن في كل ما سواه من المذاهب والمقالات. تعظما لنفسه وترويجا لمذهبه. فصار ذلك سببا لوقوع الخصومة الشديدة بين فرقهم وطوائفهم. وانتهى الأمر فيه إلى أن بعضهم يكفّر بعضا، ويغزو بعضهم بعضا.
وفي الآية وجهان:(أحدهما) ما بين اليهود والنصارى، لأنه جرى ذكرهم في قوله تعالى: لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى [المائدة: ٥١] . وهو قول الحسن