جواد البلاغة ويحرزون قصبات السبق في مسابقة الأقران بالقصائد والخطب، والرسائل والمحاورات. وما كانوا يعرفون أسلوبا غير هذه الأوضاع الأربعة، ولا يتمكنون من إبداعه. فإبداع أسلوب غير أساليبهم على لسان حضرته صلّى الله عليه وسلّم، وهو أمّيّ، عين الإعجاز.
ومنها الإخبار بالقصص والأحكام والملل السابقة، بحيث كان مصدقا للكتب السابقة.
ومنها الإخبار بأحوال مستقبلة، فكلما وجد شيء على طبق ذلك الإخبار ظهر إعجاز جديد.
ومنها الدرجة العليا في البلاغة مما ليس مقدورا للبشر. ونحن لما جئنا بعد العرب الأول، ما كنا لنصل إلى كنه ذلك، ولكن القدر الذي علمناه أن استعمال الكلمات والتركيبات العذبة الجزلة مع اللطافة وعدم التكلف في القرآن العظيم- أكثر منه في قصائد المتقدمين والمتأخرين. فإنا لا نجد من ذلك فيها قدر ما نجده في القرآن، وهذا أمر ذوقي يتمكن من معرفته المهرة من الشعراء، وليس للعامة من الناس ذائقة في هذا الأمر. وأيضا نعلم من الغرابة فيه إنه يلبس المعاني من أنواع التذكير والمخاصمة في كل موضع لباسا يناسب أسلوب السورة، وتقصر يد المتطاول عن نيله، وإن كان أحد لا يفهم هذا الكلام فليتأمل إيراد قصص الأنبياء، في سورة الأعراف، وهود والشعراء، ثم لينظر تلك القصص في الصافات، ثم في الذاريات ليظهر له الفرق. وكذلك تعذيب العصاة وتنعيم المطيعين فإنه يذكر في كل مقام بأسلوب جديد. ويذكر مخاصمة أهل النار في كل مقام بصورة على حدة.
والكلام في هذا يطول.
وأيضا نعلم إنه لا يتصور رعاية مقتضى المقام، الذي تفصيله في فن المعاني، والاستعارات، والكنايات، التي تكفل بها فن البيان مع رعاية حال المخاطبين الأميين الذين لا يعرفون هذه الصناعات- أحسن مما يوجد في القرآن العظيم. فإن المطلوب هاهنا أن يذكر في المخاطبات المعروفة التي يعرفها كل من الناس نكتة رائقة للعامة، مرضية عند الخاصة، وهذا المعنى كالجمع بين النقيضين.
يزيدك وجه حسنا ... إذا ما زدته نظرا
ومن جملة وجوه الإعجاز ما لا يتيسر فهمه لغير المتدبرين في أسرار الشرائع.
وذلك أن العلوم الخمسة نفسها. تدل على أن القرآن نازل من عند الله لهداية بني