الشريعة، ولم يكتف بمجرد الفهم ولكن الفرق أنهم اختاروا في أكثر الأحوال تكرار تلك المسائل بعبارة جديدة وأسلوب غريب ليكون أوقع في النفس وألذّ في الأذهان دون التكرار بلفظ واحد. والذهن يخوض في صورة اختلاف التعبيرات وتغاير الأسلوب، ويتعمق الخاطر بأسره.
إن سألوا: لم نشر هذه المطالب في سورة القرآن، ولم يراع الترتيب فيذكر آلاء الله أولا، ويستوفي حقها، ثم يذكر أيام الله، ثم مخاصمة الكفار؟ قلنا: وإن كانت القدرة الإلهية شاملة للممكنات كلها، ولكن الحاكم في هذه الأبواب الحكمة.
والحكمة موافقة المبعوث إليهم في اللسان، وأسلوب البيان، وأشير إلى هذا المعنى في آية: لَقالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُهُ، ءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ ... [فصلت: ٤٤] ، وما كان في العرب في وقت نزول القرآن كتاب، لا من الكتب الإلهية، ولا من مؤلف البشر.
وما كان العرب يعلمون ما اخترع المصنفون الآن من الترتيب. فإن كنت في شك من هذا فتأمل قصائد الشعراء المخضرمين، وأقرا رسائل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، ومكاتيب عمر الفاروق رضي الله عنه ليتضح هذا المعنى. فلو قيل بخلاف طورهم، لبقوا في حيرة حين يصل إلى سمعهم شيء غير معهود، فيشوش فهمهم. وأيضا ليس المقصود مجرد الإفادة، بل الإفادة مع الاستحضار والتكرار، وهذا المعنى، في غير المرتب، أقوى وأتم.
إن سألوا لمَ لم يختر وزنا وقافية. يعتبران عند الشعراء، فإنهما ألذّ من هذا الوزن والقافية؟ قلنا: كونهما ألذّ، يختلف باختلاف الأقوام والأذهان. وعلى التسليم، فإبداع طور من الوزن والقيافة على لسان حضرة نبينا صلّى الله عليه وسلّم، وهو أميّ، آية ظاهرة على نبوته صلّى الله عليه وسلّم. ولو نزل القرآن على وزن الشعراء وقافيتهم لحسب الكفار أنه هو الشعر المشهور المعروف في العرب، ولم يأخذوا من ذلك الحسبان فائدة، كما إذا أراد البلغاء من أهل النظم والنثر أن يثبتوا مزيتهم ورجحانهم على المعاصرين على رؤوس الأشهاد، استنبطوا صناعة غريبة، وقالوا: هل يستطيع أحد أن يقول شعرا أو غزلا على هذا الطور؟ أو يكتب كتابا على هذا النمط؟ ولو كان إنشاؤهم على الطور القديم لما ظهرت براعتهم إلا عند المحققين.
إن سألوا عن إعجاز القرآن: من أي وجه هو:؟ قلنا: المحقق عندنا أنه لوجوه كثيرة:
منها الأسلوب البديع. لأن العرب كانت لهم ميادين معلومة يركضون فيها