وبالجملة: إنّ المشاركة بين صفات الله تعالى وصفات عباده إنّما هي في الإسم، لا في الجنس كما زعم بعضهم، فبطل زعم من قال: إنّ إثبات كون الأفعال التي تصدر من الإنسان هي بقدرته وإرادته- يقتضي أن يكون شريكا لله تعالى سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ [الصافات: ١٨٠] .
المسألة الثانية: - وهي عضلة العقد ومحكّ المنتقد- أن القضاء عبارة عن تعلّق علم الله تعالى أو إرادته في الأزل بأنّ الشيء يكون على الوجه المخصوص من الوجوه الممكنة، والقدر وقوع الأشياء فيما لا يزال على وفق ما سبق في الأزل.
ومن الأشياء التي يتعلق بها القضاء والقدر أفعال العباد الاختيارية. فإذا كان قد سبق القضاء المبرم- بأن زيدا يعيش كافرا ويموت كافرا- فما معنى مطالبته بالإيمان وهو ليس في طاقته؟ ولا يمكن في الواقع ونفس الأمر أن يصدر منه. لأنه في الحقيقة مجبور على الكفر في صورة مختار له؟ كما قال بعضهم.
والجواب عن هذا: أن تعلق العلم والإرادة بأن فلانا يفعل كذا، لا ينافي أن يفعله باختيار، إلا إذا تعلق العلم بأن يفعله مضطرا كحركة المرتعش مثلا. ولكن أفعال العباد الاختيارية قد سبق في القضاء بأنها تقع اختيارية، أي: بإرادة فاعليها لا رغما عنهم. وبهذا صح التكليف ولم يكن التشريع عبثا ولا لغوا.
وثم وجه آخر في الجواب، وهو: لو كان سبق العلم أو الإرادة بأن فاعلا يفعل كذا، يستلزم أن يكون ذلك الفاعل مجبورا على فعله، لكان الواجب، تعالى وتقدس، مجبورا على أفعاله كلها. لأن العلم الأزليّ قد تعلق بذلك، وكل ما تعلق به العلم الصحيح لا بد من وقوعه.
فتبين- بهذا- أن الجبرية ومن تلا تلوهم قد غفلوا عن معنى الاختيار، واشتبهت عليهم الأنظار، فكابروا الحسّ والوجدان، ودابروا الدليل والبرهان، وعطلوا الشرائع والأديان، وتوهموا أنهم يعظمون الله ولكنهم ما قدروه حقّ قدره، ولا فقهوا سر نهيه وأمره، حيث جرّءوا الجهال على التنصل من تبعة الذنوب والأوزار، وادعاء البراءة لأنفسهم والإحالة باللوم على القضاء والقدر، وذلك تنزيه لأنفسهم من دون الله ولا حول ولا قوة إلّا بالله. بل ذلك إغراء للإنسان بالانغماس في الفسوق والعصيان. فيا عجبا لهم كيف جعلوا أعظم الزواجر من الإغراء، وهو الاعتقاد بإحاطة علم الله بالأشياء! أليس من شأن من لم يفسد الجبر فطرته، ويظلم الجهل بصيرته،