للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

في السماء، على العرش من فوق سبع سموات، كما قالت الجماعة. وهو حجتهم على المعتزلة والجهمية في قولهم: (إن الله في كل مكان، وليس على العرش) والدليل على صحة ما قاله أهل الحق في ذلك قوله تعالى: الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى [طه: ٥] ، ثم ساق عدة آيات في ذلك- وقال: هذه الآيات كلها واضحات في إبطال قول المعتزلة. وأما ادعاؤهم المجاز في الاستواء، وقولهم في تأويل اسْتَوى استولى، فلا معنى له، لأنه غير ظاهر في اللغة. ومعنى الاستيلاء في اللغة المغالبة، والله تعالى لا يغالبه أحد، وهو الواحد الصمد. ومن حق الكلام أن يحمل على حقيقته، حتى تتفق الأمة أنه أريد به المجاز، إذ لا سبيل إلى اتباع ما أنزل إلينا من ربنا تعالى، إلا على ذلك، وإنما يوجه كلام الله عزّ وجلّ على الأشهر والأظهر من وجوهه، ما لم يمنع من ذلك ما يجب له التسليم. ولو ساغ ادعاء المجاز لكل مدع، ما ثبت شيء من العبادات. وجلّ الله أن يخاطب إلا بما تفهمه العرب من معهود مخاطباتها مما يصح معناه عند السامعين. والاستواء معلوم في اللغة مفهوم، وهو العلوّ والارتفاع على الشيء، والاستقرار والتمكن فيه. قال أبو عبيدة في قوله الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى [طه: ٥] ، قال: علا، قال: تقول العرب: استويت فوق الدابة واستويت فوق البيت. وقال غيره: استوى أي استقر، واحتج بقوله تعالى:

وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ، وَاسْتَوى [القصص: ١٤] ، انتهى شبابه واستقر، فلم يكن في شبابه مزيد.

قال ابن عبد البر: الاستواء: الاستقرار في العلوّ، وبهذا خاطبنا الله تعالى في كتابه فقال: لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ [الزخرف: ١٣] ، وقال تعالى: وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ [هود: ٤٤] ، وقال تعالى:

فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ [المؤمنون: ٢٨] ، وقال الشاعر:

فأوردتهم ماء بفيفاء قفرة ... وقد حلّق النجم اليمانيّ فاستوى

وهذا لا يجوز أن يتأوّل فيه أحد (استولى) ، لأن النجم لا يستولي. وقد ذكر النضر بن شميل- وكان ثقة مأمونا جليلا في علم الديانة واللغة- قال: حدثني الخليل- وحسبك بالخليل- قال: أتيت أبا ربيعة الأعرابي، وكان من أعلم ما رأيت، فإذا هو على سطح، فسلمنا، فرد علينا السلام، وقال: (استووا) فبقينا متحيرين ولم ندر ما قال، فقال لنا أعرابيّ إلى جانبه: إنه أمركم أن ترفّعوا، فقال الخليل: هو من قول الله ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ [البقرة: ٢٩] ، فصعدنا إليه. قال: وأما من نزع منهم

<<  <  ج: ص:  >  >>