للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

في شرح حديث «فرح الله بتوبة عبده» ما صورته، بعد جمل:

«وتحت هذا سر عظيم يختص الله بفهمه من يشاء، فإن كنت ممن غلظ حجابه وكثفت نفسه وطباعه فعليك بوادي الخفا، وهو وادي المحرفين للكلم عن مواضعه، الواضعين له على غير المراد منه، فهو واد قد سلكه خلق، وتفرّقوا في شعابه وطرقه ومتاهاته، ولم يستقر لهم فيه قدم، ولا لجئوا منه إلى ركن وثيق، بل هم كحاطب الليل، وحاطم السيل. وإن نجاك الله من هذا الوادي، فتأمّل هذه الألفاظ النبوية المعصومة التي مقصود المتكلم بها غاية البيان، مع مصدرها عن كمال العلم بالله، وكمال النصيحة للأمة، ومع هذه المقامات الثلاث- أعني كمال بيان المتكلم وفصاحته وحسن تعبيره عن المعاني، وكمال معرفته وعلمه بما يعبر عنه، وكمال نصحه وإرادته لهداية الخلائق- يستحيل عليه أن يخاطبهم بشيء، وهو لا يريد منهم ما يدل عليه خطابه، بل يريد منهم أمرا بعيدا عن ذلك الخطاب، إنما يدل عليه- كدلالة الألغاز والأحاجي- مع قدرته على التعبير عن ذلك المعنى بأحسن عبارة وأوجزها، فكيف يليق به أن يعدل عن مقتضى البيان الرافع للإشكال المزيل للإجمال، ويوقع الأمة في أودية التأويلات وشعاب الاحتمالات والتجويزات.

سبحانك هذا بهتان عظيم. وهل قدر الرسول حق قدره، أو مرسله حقّ قدره من نسب كلامه سبحانه، أو كلام رسوله إلى مثل ذلك؟ ففصاحة الرسول وبيانه وعلمه ومعرفته ونصحه وشفقته يحيل عليه أن يكون مراده من كلامه ما يحمله عليه المحرفون للكلم عن مواضعه، المتأوّلون له غير تأويله، وأن يكون كلامه من جنس الألغاز والأحاجي. والحمد لله رب العالمين.

فإن قلت: فهل من مسلك غير هذا الوادي الذي ذممته فنسلك فيه، أو من طريق يستقيم عليه السالك؟ قلت: نعم. بحمد الله، الطريق واضحة المنار، بيّنة الأعلام، مضيئة للسالكين، وأولها: أن تحذف خصائص المخلوقين عن إضافتها إلى صفات ربّ العالمين، فإنّ هذه العقدة هي أصل بلاء الناس. من حلها، فما بعدها أيسر منها. ومن هلك بها، فما بعدها أشدّ منها. وهل نفى أحد ما نفى من صفات الرب ونعوت جلاله إلّا لسبق نظره الضعيف إليها، واحتجابه بها عن أصل الصفة، وتجرّدها عن خصائص المحدث؟ فإن الصفة يلزمها لوازم باختلاف محلها، فيظنّ القاصر، إذا رأى ذلك اللازم في المحل المحدث، أنه لزم لتلك الصفة مطلقا، فهو يفرّ من إثباتها للخالق سبحانه، حيث لم يتجرّد في ظنه عن ذلك اللازم. وهذا كما فعل من نفى عنه سبحانه الفرح والمحبّة والرضى والغضب والكراهة والمقت والبغض، وردّها كلّها إلى الإرادة. فإنه فهم فرحا مستلزما لخصائص المخلوق من انبساط دم

<<  <  ج: ص:  >  >>