يكرههم على ذلك، لأن شريعته لم تأذن بإكراه أهل الكتاب على الإسلام، لهذا تركهم على دينهم، بعد أن دعاهم إلى الإسلام بالتي هي أحسن، فأبوا، وأعطاهم كتاب العهد المذكور، إلا أنه اشترط عليهم فيه أن لا يخونوا المسلمين، ولا يتعاملوا بالربا كما رأيت.
ولما استخلف أبو بكر أكد لهم عهدهم الأول، مع أنه كان يرى في وجودهم في جزيرة العرب من الخطر ما كان يراه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فلم يسعه في أمرهم إلا ما وسع الرسول صلّى الله عليه وسلّم، حتى إذا علم أنهم خانوا العهد، وتعاملوا بالربا، أمر في حال مرضه عمر ابن الخطاب رضي الله عنه بإجلائهم عن جزيرة العرب، دون أن يفتنوا في دينهم.
ولما استخلف عمر رضي الله عنه، كان أول بعث بعثه، بعث أبي عبيد إلى العراق، وبعث يعلى بن أمية إلى اليمن، وأمره بإجلاء أهل نجران، وأن يعاملهم بالرأفة ويشتري أموالهم، ويخيرهم عن أرضهم في أي أرض شاءوا من بلاد الإسلام، لا أن يعاملهم معاملة القوي الغالب، للضعيف المغلوب، كما هو شأن كل دولة من الدول قبل الإسلام وبعده، حتى الآن، في معاملة الأمم التي تخالف مذهبها، وتخضع لقوة سلطانها. فتفرقوا، فنزل بعضهم الشام، وبعضهم النجرانية بناحية الكوفة، وبهم سميت. ولم تقف العناية بهم في إجلائهم، والمحافظة على ما بيدهم من العهد، وتعويضهم عما تركوه من العقار والمال عند هذا الحد، بل كانوا يجدون بعد ذلك من الخلفاء كل رعاية ورفق. من ذلك أنهم شكوا مرة إلى عثمان رضي الله عنه- لما استخلف- ضيق أرضهم، ومزاحمة الدهاقين لهم، وطلبوا إليه تخفيف جزيتهم، فكتب إلى الوليد بن عقبة بن أبي معيط، عامله على الكوفة، كتابا يوصيه بهم، ويأمره أن يضع عنهم مائتي حلة من جزيتهم، لوجه الله، وعقبى لهم من أرضهم.
وروى البلاذري أنه لما ولي معاوية، أو يزيد بن معاوية، شكوا إليه تفرقهم، وموت من مات منهم، وإسلام من أسلم منهم، وأحضروه كتاب عثمان بن عفان، بما حطهم من الحلل، وقالوا: إنما ازددنا نقصانا وضعفا. فوضع عنهم مائتي حلة تتمة أربعمائة حلة. فلما ولي الحجّاج العراق، وخرج ابن الأشعث عليه، اتهمهم والدهاقين بموالاته، فردّ جزيتهم إلى ما كانت عليه. فلما ولي عمر بن عبد العزيز الخلافة، شكوا إليه ظلم الحجاج ونقصهم، فأمر فأحصوا فبلغوا العشر من عدتهم، فألزمهم مائتي حلة جزية عن رؤوسهم فقط. فلما ولي يوسف بن عمر العراق، في خلافة الوليد بن يزيد الأموي، ردّهم إلى ما كانوا عليه، عصبية للحجاج. فلما