انقضت دولة الأمويين واستخلف أبو العباس السفاح، رفعوا إليه أمرهم، وما كان من عمر بن عبد العزيز ويوسف بن عمر، فردّهم إلى مائتي حلة ولما استخلف هارون الرشيد شكوا إليه تعنت العمال معهم، فأمر فكتب لهم كتاب بالمائتي حلة، وبالغ بالرفق بهم، فأمر أن يعفوا من معاملة العمال، وأن يكون مؤداهم بيت المال بالحضرة، كي لا يتعنتهم أحد من العمال.
هذا ما رواه المؤرخون في شأن هؤلاء الكتابيين الذين أجلاهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن جزيرة العرب. وقد رأيت مما مرّ مبلغ عناية عمر رضي الله عنه بهم، لما لم ير بدّا من إجلائهم للأسباب التي مر ذكرها. وقد كان من السهل إكراههم على الإسلام، ودخولهم فيه، كما دخل أولئك الملايين من مشركي العرب، وعامة سكان الجزيرة العربية، طوعا أو كرها. وإنما هو الشرع الإسلامي، منع من إكراه غير مشركي العرب على الإسلام، كما منع من نقض العهد، وخفر الذمة إلا بسبب مشروع. لهذا، لما خان النجرانيون عهدهم بتعاملهم بالربا، وقد عاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم ألا يتعاملوا به في الجزيرة ساغ لأمير المؤمنين إجلاؤهم إلى غيرها، بعد أن عوّضهم عن المال والعقار بمثله. وما زال الخلفاء بعده- مبالغة بالرفق بأهل الكتاب، وقياما بواجب السيادة العادلة، ووفاء بعهد الله والرسول- يعاملون النجرانيين بأحسن ما تعامل به عامة الرعية من المسلمين، ويدفعون عنهم أذى الظلم والإجحاف كما رأيت.
ونتج من هذه القصة ثلاثة أمور:
الأمر الأول: - عدم إكراه النجرانيين على الإسلام، مع تعيّن الخطر من وجودهم في جزيرة العرب، لحداثة عهد أهلها بالإسلام. ذلك لأن عدم الإكراه من أصول الشريعة الإسلامية. والجهاد الذي يعظم أمره أعداء المسلمين إنما شرع لحماية الدعوة لا للإكراه، إلّا جهاد مشركي العرب يومئذ. فقد شرع لإرغامهم على الإسلام، لأسباب حكيمة لا تخفى على بصير، أهمها تطهير نفوس تلك الأمة العظيمة من شرور الوثنية، واستئصال شأفة الجهل والتوحش من جزيرة العرب، التي كانت وسطا بين ممالك الشرق والغرب، من آسيا وأفريقيا وأوربا، بل هي نقطة الصلة السياسية والتجارية بين تلك الممالك، فانتشار أنوار المدنية والدين فيها، يستلزم انتشارها بطبيعة المجاورة والإشراف على تلك الممالك أيضا، قد كان ذلك كما هو معلوم.